الأحد، 6 يوليو 2014

يهوذا الإسخريوطي ..
التلميذ الذي رفض محبة الرب يسوع المسيح!!
 
«يهوذا الإسخريوطي» ... اسم من الأسماء التي تحمل إلى ذهني، ليس فقط دلالة ومعنى محبة المال والرياء والخيانة والغدر، بل دلالة أكثر رعبًا؛ رفض محبة الرب يسوع المسيح الحانية المتأنية المترفقة.
لقد سار يهوذا الإسخريوطي مع النور الحقيقيّ الذي جاء إلى العالم، لكنه لم يُقبل إلى النور، وأحب الظلمة أكثر من النور، لأن أعماله كانت شريرة، ولم يُرد أن يأتي إلى النور لئلا تُوبَّخ أعماله (يو3: 19-21). ولقد حاول الرب يسوع المسيح، بكل وسيلة، أن يُنقذ هذه النفس المريضة، وكانت محبة الرب الغنية المتفاضلة ترفرف فوق حياته، تُحيط به، ترثي له وتشفق عليه، وكان الرب يُظهر له أعمق مظاهر رحمته وشفقته، وكان يجذبه بحبال البشَر برُبط المحبة، لكي يجتذبه إلى أحضانه ويستره تحت ظل جناحيه. لقد سلَّط الرب عليه إشعاعات قوية من رحمته وصلاحه لكي ينتشله من وهدته، ولكي ينقذ من الحفرة حياته وينجي من السيف نفسه. ولكن يهوذا الإسخريوطي رفض - حتى الموت - محبة المسيح؛ رفض الانطراح في أحضان محبته، وهرب من محضر نعمته الغنية المُخلِّصة، فلم يبقَ له إلا الهلاك والظلمة الخارجية حيث البكاء وصرير الأسنان إلى أبد الآبدين.
وهاكم ـ أيها الأحباء ـ بعض من أدلتي على مقدار عظمة وتفاضل محبة الرب يسوع ليهوذا:
أولاً: لقد رتَّب له الرب يسوع المسيح «الإِلَهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ ... وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ» (أع17: 24-26)، رتّب له أن يخرج من نفس السبط، سبط يهوذا، الذي طلع منه ربنا ـ تبارك اسمه ـ حسب الجسد ... في للحظوة!! .. ويا للشرف!!
فاللقب «الإسخريوطي» ـ في اللغة العبرية ـ مركب من كلمتين هما: "إيش" و"قريوت". وكلمة "إيش" في العبرية معناها "رجل"، وكلمة "قريوت" هي اسم قرية. فيكون معنى لقب «الإسخريوطي» هو "رجل من قريوت".
أما عن "قريوت"، فقد ذُكر في العهد القديم قريتان تسمتا بهذا الاسم: كانت قريوت الأولى في موآب (عا2: 2)، أما قريوت الثانية فكانت في اليهودية ومن ضمن نصيب سبط يهوذا (يش15: 25). ولا مجال للظن أن يهوذا الإسخريوطي كان أمميًا موآبيًا انحدر من "قريوت" التي في موآب، ولذلك يمكننا أن نقرِّر أن يهوذا الإسخريوطي كان يهوديًا من قريوت، من مقاطعة اليهودية. إذًا فهو التلميذ الوحيد الذي انحدر من اليهودية، بينما جاء كل التلاميذ الآخرين من الجليل. لقد خرج «الإسخريوطيّ» من نفس السبط الذي طلع منه ربنا يسوع المسيح حسب الجسد. ويا له من امتياز كان يجب أن يُشعره بالألفة والقُرب للرب يسوع المسيح أكثر من جميع التلاميذ، وهو الأمر الذي لم يحدث على الإطلاق من جانب يهوذا، فنحن لا نقرأ أبدًا، طوال رفقته للرب، عن حديث متبادل بينه وبين الرب يسوع!
ثانيًا: لقد اختار الرب يسوع «يهوذا الإسخريوطيّ» تلميذًا وهو يعلم تمامًا ماذا سيفعل (يو6: 70)، وأعطاه الفرصة الكاملة، كما يُعطي لأي إنسان شرير على الأرض، لأنه لا يعاقب على إثم قبل حدوثه، ولا يمنع إنسانًا من فرصة طيبة يمكن أن يقتنصها، حتى يستد كل فم، ولا يحتج أحد أمام الله بأنه لم يُعطَ فرصته الكاملة في أرض الأحياء .. وهنا يمكن أن نقف مشدوهين، إذ كيف يحب المسيح ذاك الخائن، ويُطعمه ويأويه، وهو يعلم أنه يقترب من الخيانة يومًا بعد يوم .. ولكن «يهوذا» يُعطينا نموذجًا عجيبًا على صبر المسيح وحنانه وإشفاقه على أشر الخطاة وأحط الأثمة.
ونحن نعلم أن المسيح اختار تلاميذه بعد ليلة قضاها في الصلاة، وهو لم يختره اعتباطًا، ولا اختاره ليكون خائنًا. فمن المؤكد أنه كان يملك وزنات طبيعية حباه بها الله، وأحاطها الرب يسوع المسيح بكل ما يمكن أن تُحاط به الوزنات، لعلها تنمو وتُستخدم على أفضل صورة، ولكنه ـ للأسف الشديد ـ دفنها ونظر إلى سيده كما نظر صاحب الوزنة الواحدة، واتهمه بالشدة والقسوة والصرامة، من غير حق (مت25: 24-28).
واختيار الرب ليهوذا تلميذًا، لم يكن مجرد اختيار شكلي يُمكِّن يهوذا من الاحتجاج بأنه وضع "صورة" فحسب، دون أن يمارس المسئولية فعلاً، لأن المسيح اختاره أمينًا للصندوق، وبهذا فقد جعله الرب موضع ثقة وتقدير. ومن الجائز أنه كان أقدر التلاميذ من الوجهة المالية، وأقدر من متى العشار نفسه. في للمكانة الممتازة التي تمتع بها يهوذا بين الاثني عشر!!
ومع أنه كان أمينًا للصندوق، إلا أنه تجاهل تحذيرات الرب يسوع عن الطمع والرياء (مت6: 19-21؛ لو12: 1-3) واستغل الأموال لحسابه. ولتغطية جشعه، فقد تظاهر بالغيرة على الصندوق (يو12: 4-6). ولعل التعليم الذي قدَّمه الرب يسوع عن محبة المال، كان مُهدى بصورة مباشرة إلى التلميذ «يهوذا الإسخريوطي». ولكن بدلاً من أن تساعده تحذيرات الرب على التغلب على محبة المال والطمع والأنانية، فقد أشعل المنصب الذي وُضع فيه أنانيته وطمعه، فصار سارقًا، يبتز ما بقي في الصندوق الذي عُهد به إليه (يو12: 6، 13: 29). واستطاع يهوذا أن يخفي حقيقة شخصه عن بقية التلاميذ. وعدم فهم التلاميذ لحقيقة يهوذا، يُرينا أن معاملة الرب لذلك الرجل لم تتغير رغم أنه كان يعرف كل شيء عنه، وآخر عمل عمله معه أنه أعطاه اللقمة رمزًا للود والمحبة «وَالْمَحَبَّةُ تَسْتُرُ كُلَّ الذُّنُوبِ» (أم10: 12؛ 1بط4: 8).
وبالإضافة إلى أن يهوذا تمتع بتقدير الرب يسوع، إذ اختاره أمينًا للصندوق، فإنه أيضًا تمتع ـ مثل باقي التلاميذ ـ بسلطان عظيم، وانتعش برسالة الملكوت التي أوصاه الرب أن يكرز بها. واختبر خضوع الشياطين فاستطاع أن يُخرجها بسلطان عظيم، وشفى كثيرين بموهبة الشفاء التي أُعطيت له، طهّر بُرصًا وأقام موتى (مت10: 1-8؛ مر3: 13،14؛ 6: 7-13؛ لو9: 1-6). وبالرغم من كل هذه الأمور العظيمة، لم يقتنع الإسخريوطي بالتراجع عن العمل الذي كان مزمعاً أن يأتيه.
ثالثًا: وفي عشاء الفصح الأخير في العُلية، كان الصراع عنيفًا بين الراعي المُحب: الرب يسوع المسيح، وبين الذئب المفترس: الشيطان؛ من أجل يهوذا. ورضي الرب يسوع أن يسعى إلى قلب يهوذا بالمحبة. فقد ركع «السَيِّد والمُعلِّم» على ركبتيه وغسل أرجل التلاميذ، وغسل أيضًا رجلي يهوذا!! .. ويا له من منظر يُثير الدهشة!!
جلس التلاميذ مأخوذين، وقد ظهر عليهم الخجل، إذ كانوا يتنازعون فيما بينهم: مَنْ يكون الأعظم (لو22: 24-27). عندئذ شعروا بالاتضاع، وأحسّوا بالمحبة واللطف يعمّ كيانهم، وبشعور الدهشة والسرور تركوا سيدهم يفعل ما يسّره أن يفعله بهم.
واستمر الرب يغسل أرجل تلاميذه في تنازل واتضاع، في صمت وهدوء، حتى جاء دور سمعان بطرس الذي أظهر اعتراضه فتوقف العمل حينًا. وحدّثنا الرسول يوحنا في إنجيله عن احتجاج بطرس الشديد على عمل الاتضاع العجيب هذا، ولكنه لا يذكر شيئًا من هذا القبيل عن يهوذا. ولو أنه كان يليق بأحد التلاميذ أن يعترض على ذلك التصرف من السيد والمعلم، لوَجب أن يكون هو يهوذا بل منازع. فقد كان ينبغي أن يذكر خطيته المطمورة في قلبه، فيرفض أن يقترب منه السيد والمعلم متضعًا بهذه الدرجة!
اقترب الرب يسوع حيث جلس يهوذا في مقعده، وانحنى أمامه على الأرض بكل تواضع ومحبة، وغسل رجليه كما غسل أرجل كل التلاميذ. وتصوّروا معي: «ربي وإلهي» يغسل أوساخ القدمين، ويتطلع في وجه يهوذا. هل انسكبت دموع غالية من عينيه الطاهرتين، لتأخذ مكانها عند القدمين الملوثتين؟ لقد كان "حلو اليدين" يُخاطب قلبه، وكان يقرع على باب قلبه. كانت القرعات قوية تجسَّمت فيها كل معاني المحبة وإنكار الذات، فقد ركع السَيِّد والمُعلِّم على ركبتيه، وغسل رجلي يهوذا!!
ألم تلتقِ نظراتك يا يهوذا وقتئذ بعيني سيدك؟! ألم تحس بقشعريرة تسري في بدنك لتحرِّك مشاعرك عندما لامست اليدين الطاهرتين قدميك المتسخة؟! كيف جاهدت حتى تضبط مشاعرك؟! وكيف جرحت أحاسيس المُحب الذي ألقى إليك بحبه الغامر لإرجاعك عن طريق الهلاك؟! كيف احتفظت بصمتك فلم تتكلم؟! كيف أفلتَّ من نظرات الرب حتى لا تخونك أعصابك كما خنت أنت سيدك؟! كيف بعد كل هذا استطعت أن تخون المجيد الفريد الذي «إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى» (يو13: 1)؟
وبعد أن أكمل السيد غسل الأرجل، أخذ المنشفة التي اتزر بها، وكان يجفِّف الأرجل التي أزال أوساخها في صمت مُطبق ورهيب. وأمام صمت المُعلِّم، ربما أخذ يهوذا يُمنّي نفسه بأمنية كاذبة: "ربما لا يعرف المُعلِّم شيئاً عن عزمي". ولربما أخذ يعزي نفسه بهذه الهواجس المحمومة .. ولكن الرب يسوع قطع حبل التفكير والظنون بكلماته الرائعة: «ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». وعلم يهوذا ـ تمام العلم ـ لماذا اضطر الرب يسوع أن يضع هذا التحفظ في تصريحه «لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ لِذَلِكَ قَالَ: لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ» (يو13: 10،11). ورغم هذا التصريح المباشر، لم تحرِّك هذه الكلمات قلب يهوذا ولا ضميره، وتسلّلت الكلمات من أذنيه ومن قلبه، ومرّت كغيرها دون أن يحرِّك ساكناً ... في للقساوة!!
رابعًا: وفي هذا المقام، جاء تحذير آخر، وجهه الرب إلى التلميذ الذي كان مُزمعًا أن يخونه. وفي هذا التحذير أشار الرب إلى جريمة مُشابهة أخذت مكانها على مسرح أحداث العهد القديم؛ جريمة الخائن القديم أخيتوفل الذي خان سيده الملك داود، مسيح الرب، الأمر الذي أدىّ به في النهاية إلى الانتحار. لقد قال الرب مُحذراً: «اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ» (يو13: 18؛ مز41: 9). أما كان يجب أن يسترجع يهوذا من كلمات التحذير الجديد صورة العقاب الذي يصيب الإنسان بسبب رفضه محبة ابن الله، المسيح الرب؟
لقد كان موقف يهوذا من الرب هو تمامًا موقف أخيتوفل من داود ..
خان أخيتوفل سيده داود، وه يهوذا يحيك المؤامرة كي يخون سيده الرب يسوع ..
أكل أخيتوفل من خبز داود، وها يهوذا يأكل مع الرب يسوع من صحفة واحدة ...
وخيانة أخيتوفل أدّت به في النهاية إلى الانتحار .. فحذار ي يهوذا .. حذار .. إن الطريق الذي تسير فيه خطر.
أولم يعلن الرب أيضًا، في محبته ورحمته، القضاء الرهيب: «إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!» (مت26: 24؛ مر14: 21)؟ وكان قصد الرب يسوع من كلمات ذلك القضاء أن يتذكر يهوذا الخطر الذي كان يُسرع إليه فيتراجع عن الجريمة التي أوشك أن يرتكبها. وبكل أسف، لم يرَ يهوذا ذلك التشابه بينه وبين أخيتوفل، ولم يصدِّق شيئًا مما قيل أمامه. في للإصرار!! ... ويا للعناد!!
خامسًا: ثم جلس الرب يسوع إلى المائدة مع تلاميذه، وأخذ كل واحد من التلاميذ مكانه المخصَّص له. وفي تلك الأيام كان الضيوف يجلسون على وسائد على الأرض ويتكئون في جلستهم إلى الأمام، فيضطجع الواحد بجسمه مُحملاً على ساعده الأيسر، بينما يتناول الطعام والشراب من المائدة التي أمامه بيده اليُمنى. وبالتأكيد، كان الرب يسوع – السَيِّد والمُعلِّم -  يجلس في الوسط، وعلى يمينه يوحنا الحبيب لأنه كان «مُتَّكِئاً فِي حِضْنِ يَسُوعَ» (يو13: 23). ولكن ماذا عن الجانب الأيسر من المُضيف ورئيس المُتكأ، والذي جرى العُرف القديم أن يجلس فيه ضيف الشرف في الوليمة، وعُرف عن ذلك المكان أنه مكان الصدارة والشرف لأهم ضيف في العشاء كله، وجرت العادة الشرقية القديمة أن يتكئ المُضيف برأسه على صدر ضيف الشرف الجالس على يساره، ويُطعمه بيده. مَنْ ي تُرى الذي جلس على الجانب الأيسر من الرب يسوع المسيح؟!
لا يمكن أن نفترض للإجابة على ذلك اسم سمعان بطرس، فقد احتاج الأمر أن يومئ بطرس إلى يوحنا لكي يسأل الرب نيابة عنه عمن هو الذي يسلمه (يو13: 24). فإن لم يكن بطرس هو الذي جلس على الجانب الآخر من الرب يسوع، فمَنْ يكون إذاً؟!
أرجو - عزيزي القارئ - ألاّ تتعجب عندما تعلم اسم التلميذ الذي شرّفه الرب بالجلوس عن يساره، مُميزًا إياه عن غيره، فلم يكن ذلك التلميذ سوى «يهوذا الإسخريوطي» .. في للشرف!!
وقد يتطرق الشك إلى قلوب الكثيرين من هذا الاستنتاج. فكيف يرضى الرب أن يجلس يهوذا بجانبه؟! وكيف يضعه في نفس الدرجة التي يضع فيها يوحنا «التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ»؟! ويدحض البشير متى كل شك بما تضمنه إنجيله، فقد شعر كل التلاميذ بالأسف عندما أنبأهم سيدهم أن واحدًا منهم سيسلمه، ومن أجل ذلك سألوه جميعًا: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟». وردد يهوذا السؤال للرب، يشفعه بلقب بارد، كتلك الألقاب الرسمية المتداولة بين الناس، ««هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟» (اي مُعلِّم؟ Is it I, Rabbi ). فأجابه الرب بهذه العبارة الصريحة: ««أَنْتَ قُلْتَ» (مت26: 20-25). وليس من المعقول أن التلاميذ سمعوا هذه الإجابة ولم يحركوا ساكنًا. إذًا لم تطرق أسماعهم كلمات الرب الخطيرة التي أجاب بها سؤال يهوذا. ولو سمع أحد شيئًا من ذلك، لمَا كان بطرس يومئ برأسه إلى يوحنا، يوعز إليه أن يسأل الرب عن اسم الشخص الذي يقصده بالذات. ولو أن التلاميذ سمعوا الإجابة، ما تركوه يمضي لكي يوقع المُعلِّم والسَيِّد المحبوب في أذى أو شر. ولا يوجد شرح أو تعليل لصمت التلاميذ أمام هذه الكارثة التي أوشكت على الوقوع، غير أنهم لم يسمعوا ذلك التصريح الذي أجاب به الرب يسوع تلميذه الخائن، ولم يكن ممكنًا أن يمر الأمر بهذه السهولة ما لم يكن الرب قد نطق بتلك الإجابة بصوت منخفض يكفي لتوصيلها إلى أذني يهوذا وحده.
ونتصور الرب يجلس، يميل على يهوذا ويهمس في أذنه بالرد على سؤاله. ثم تظهر ملامح الصورة كاملة، فنرى الرب يجلس بين يوحنا الحبيب من ناحية، ويهوذا الإسخريوطي من الناحية الأخرى.
وكانت الصورة مظهرًا رائعًا للمحبة الإلهية، الفائقة المعرفة، التي تتسم أحيانًا بالغموض وعدم الفهم من جانبنا، فقد ظل الخائن في عناده وإصراره، رغم احتلاله المكان المقرَّب من قلب سيده، ورغم لفتات الحب العجيب، ولم تُذِب هذه المنزلة الخاصة قلبه فيتوب ويرجع عن غيه، بل تقسى قلبه أكثر وتحجَّر. ولربما ظن أن خطته في مأمن من الرب يسوع نفسه، فلو أن سيده كشف ما اعتزم أن يفعله، ما رضي أن يُجلسه في ذلك المكان القريب من قلبه.
سادسًا: ومرة أخرى حاول الرب أن يبرهن ليهوذا أنه مع معرفته بكل شيء، فإنه لا يزال يحبه. ولقد كانت العادة لدى اليهود أن يغمس الشخص لقمة في الصحفة المشتركة، ويعطيها لضيف الشرف في الوليمة، علامة على المحبة الخاصة والتقدير. ولهذا فإن الرب عندما غمس اللقمة وأعطاها ليهوذا، كان الرب قد أجاب على سؤال يوحنا: ««يَا سَيِّدُ (يا رب) مَنْ هُوَ؟» (lord, who is it? )، بالقول: «هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ» (يو13: 25،26). إلا أن الرب لم يُعطِ اللقمة، رمز المحبة، كعلامة ليوحنا ولبطرس فقط، ولكنه رغب في أن يؤكد ليهوذا أنه بالرغم من معرفته الكاملة، إلا أن قلبه لا يزال مملوءًا بالحب له.
وقصد الرب بهذه الوخزة أن يستيقظ ضمير يهوذا النائم. وكان يكفي أن ترسم هذه المحاولة الأخيرة أمام يهوذا الخائن صورة الراعي الصالح الذي يُفتِّش عن خروفه الضال. ولم يكن أمام يهوذا سوى فرصة واحدة باقية؛ هذه الفرصة هي أن يتجاوب مع محبة المخلِّص، ويواجه نفسه بصراحة، ويدرك الخطية التي سقط فيها، ثم يطلب غفران الرب ورضاه. ولكن طالت مقاومة الإسخريوطي حتى انتهى به الأمر إلى حالة من العصيان والقساوة، جعلته يسلم نفسه بكبرياء وغرور للشيطان «فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ» (يو13: 27).
عندما تسطع الشمس على بِِركة ماء راكدة، فإن أشعتها التي تُبهج الخليقة، تُخرج من البِركة رائحتها المنفّرة التي لولا هذه الأشعة لظلت كامنة حبيسة. وهكذا محبة الله، فهي دائمًا رائحة حياةٍ لحياةٍ أو رائحة موتٍ لموتٍ. ويبدو هنا أن نفس قوة محبة المسيح قد دفعت يهوذا إلى ما يكاد يكون الجنون بعينه. وإذ أغلق قلبه بإصرار دون المخلِّص ومحبته، فتحه للشيطان، «فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ». وعلى التو رأى الرب التغيير، وعلم أنه لن يمكنه أن يعمل شيئاً أكثر من هذا لينقذ هذا التلميذ من الحفرة التي حفرها لنفسه، ولذلك قال له الرب: «مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ» (يو13: 27).
فعند ذلك الحد انتهى الصراع العجيب الذي أخذ مكانه في العُلية، وصدر الحكم على يهوذا بتركه يعمل. كان الرب يسوع يعمل كل جهده حتى لا ينجرف يهوذا في ذلك التيار، لكنه إذ أصرَّ على أن يعمل، ودخل الشيطان قلبه ليعمل، فليعمل. وهكذا أسلمه الرب إلى شهوة نفسه وإلى عناد قلبه ليفعل ما لا يليق (رو1: 24،28). لقد أحبَّ أجرة الظلم والإثم، فأسلمه الله للهلاك. كان قلبه كالصوَّان، فقد طال عهده بالقساوة، فأسلمه الله إلى قساوة قلبه ليتمِّم به مقاصده. وإذ قد باعد بين الرب يسوع وبين نفسه، لم يكن أمامه سوى التدهور إلى حضيض الهاوية. وانقض النسر على الجثة التي فارقتها الحياة، وكانت نفس كلمات المسيح مقسية لقلبه وختمت على هلاكه.
وخرج يهوذا من العُلية، ولم يعرف التلاميذ الآخرين إلى أين كان ذاهبًا، ولو أنهم عرفوا ما كان يدور في قلبه، ما تركوه يمضي من العُلية بسلام. لعلهم ظنوا أن يهوذا مضى بعد العشاء ليعّد التقدمات التي كانوا سيقدموها للفقراء في العيد (يو13: 29).
لقد خرج يهوذا إلى ليلٍ حالك السواد، لم تخفف من حدة سواده سوى ومضة واحدة، وذلك عندما حاول الرب مرة أخرى في البستان أن يمس قلب يهوذا بهذه الكلمات: «يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ؟» ... «يَا يَهُوذَا أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟» (مت26: 50؛ لو22: 48). ومَنْ كان يتصوّر مثل هذه الرقة في ظرفٍ كهذا؟! في نظر الكثيرين كان من الأنسب أن يقول له الرب: "اذهب عني يا شيطان"، لكننا نسمع صوتًا كنبرات صوت أبٍٍ مُحب أراد أن يرُّد نفس الابن السائر في طريق الغواية. وهكذا نجد أن الرب لم يترك وسيلة، بل سمح، وفي البستان، بقَرعة أخيرة على باب قلبه.
ولقد وصف الرب يسوع يهوذا الإسخريوطي بالوصف البالغ الأسى «ابْنُ الْهلاَكِ» (يو17: 12). وقال عنه أيضًا: «كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ» (مت26: 24؛ مر14: 21). وكيف لا، وقد خرج من حضرة الرب يسوع المسيح ليواجه ليله الأبدي «فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ. وَكَانَ لَيْلاً» (يو13: 30). لم يكن ليله مجرد ليل الطبيعة الذي أرخى سدوله في كل مكان، بل كان الليل الأعمق في داخله الذي حلََّ فيه الشيطان وملأه ظلامًا. ليلٍ في الخارج، وليلٍ في الداخل. وكما لو كان رداء الظلام الأسود رمزًا متجاوبًا مع سواد الظلام الذي كان يلف نفسه. وهذا المخلوق التَعِس، الذي رفض وبإصرار محبة الرب يسوع، والمبيع بجملته تحت سلطان قوات الظلمة، أصبح الآن مهيَّئًا ليرتكب أبشع جريمة في التاريخ.
ولقد ندم يهوذا على فعلته أخيراً، وقال: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئًا» (مت27: 4). ولكن هذا الاعتراف بالخطية كان أشبه باعتراف فرعون الذي قال لموسى: « أَخْطَأْتُ» وكان أشبه باعتراف شاول عندما قال لصموئيل: «أَخْطَأْتُ لأَنِّي تَعَدَّيْتُ قَوْلَ الرَّبِّ» أو عندما قال لداود: ««قَدْ أَخْطَأْتُ. ارْجِعْ يَا ابْنِي دَاوُدُ» (1صم15: 24، 26: 21). وكانت النقطة المهمة في مثل هذا الاعتراف أنه إحساس بالجُرم دون الالتجاء إلى رحمة الله ومحبته!! فذهب يهوذا إلى الليل الأبدي بدون رجاء!! وهكذا كل مَنْ باع الرب يسوع المسيح، ورفض محبته، واستبدلها بمتاعٍ أو شهوةٍ أرضيةٍ، لن يجد أمامه إلا الموت والمقبرة المُخيفة، والظلام والليل الأبدي.
عزيزي، إن الجرثومة التي عملت في يهوذا، توجد في كل واحد منا، وقد تنمو وتتكاثر قبل أن ننتبه لها، وإن كنا لا نضع أنفسنا في وقت مبكر تحت حماية النعمة الإلهية والمحبة الفدائية، فإن الشيطان لا يكف عن أن «يَجُولُ، كَأَسَدٍ زَائِر،ٍ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (1بط5: 8)، فليتك تُسرع لأجل خلاص نفسك، ولا تهدأ إلا بعد أن تلقي بنفسك في أحضان محبة الرب يسوع المسيح الرقيقة العطوفة الحانية، التي تسمو على الخطية، والتي تتعظم في خلاص أشرّ الخطاة إذا لجأوا إليها ... وإياك أن تفعل كما فعل «يهوذا الإسخريوطي» وترفض محبة الرب يسوع.
فايز فؤاد
 
أما وقد كان يهوذا أميناً للصندوق، فلا شك أن ذلك يؤكد أنه مصدر ثقة ولعل الرب يسوع أراد أن يؤكد له أنه على استعداد أن يمنحه كل ثقة وأن يشجع التلاميذ أيضاً على الثقة فيه. «المحبة تستر كل الذنوب» (أم10: 12؛ 1بط 4: 8)
لكي يجتذبه إلى أحضانه ويستره تحت ظل جناحيه

يهوذا الإسخريوطي

يهوذا الإسخريوطي ..
التلميذ الذي رفض محبة الرب يسوع المسيح!!
 
«يهوذا الإسخريوطي» ... اسم من الأسماء التي تحمل إلى ذهني، ليس فقط دلالة ومعنى محبة المال والرياء والخيانة والغدر، بل دلالة أكثر رعبًا؛ رفض محبة الرب يسوع المسيح الحانية المتأنية المترفقة.
لقد سار يهوذا الإسخريوطي مع النور الحقيقيّ الذي جاء إلى العالم، لكنه لم يُقبل إلى النور، وأحب الظلمة أكثر من النور، لأن أعماله كانت شريرة، ولم يُرد أن يأتي إلى النور لئلا تُوبَّخ أعماله (يو3: 19-21). ولقد حاول الرب يسوع المسيح، بكل وسيلة، أن يُنقذ هذه النفس المريضة، وكانت محبة الرب الغنية المتفاضلة ترفرف فوق حياته، تُحيط به، ترثي له وتشفق عليه، وكان الرب يُظهر له أعمق مظاهر رحمته وشفقته، وكان يجذبه بحبال البشَر برُبط المحبة، لكي يجتذبه إلى أحضانه ويستره تحت ظل جناحيه. لقد سلَّط الرب عليه إشعاعات قوية من رحمته وصلاحه لكي ينتشله من وهدته، ولكي ينقذ من الحفرة حياته وينجي من السيف نفسه. ولكن يهوذا الإسخريوطي رفض - حتى الموت - محبة المسيح؛ رفض الانطراح في أحضان محبته، وهرب من محضر نعمته الغنية المُخلِّصة، فلم يبقَ له إلا الهلاك والظلمة الخارجية حيث البكاء وصرير الأسنان إلى أبد الآبدين.
وهاكم ـ أيها الأحباء ـ بعض من أدلتي على مقدار عظمة وتفاضل محبة الرب يسوع ليهوذا:
أولاً: لقد رتَّب له الرب يسوع المسيح «الإِلَهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ ... وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ» (أع17: 24-26)، رتّب له أن يخرج من نفس السبط، سبط يهوذا، الذي طلع منه ربنا ـ تبارك اسمه ـ حسب الجسد ... في للحظوة!! .. ويا للشرف!!
فاللقب «الإسخريوطي» ـ في اللغة العبرية ـ مركب من كلمتين هما: "إيش" و"قريوت". وكلمة "إيش" في العبرية معناها "رجل"، وكلمة "قريوت" هي اسم قرية. فيكون معنى لقب «الإسخريوطي» هو "رجل من قريوت".
أما عن "قريوت"، فقد ذُكر في العهد القديم قريتان تسمتا بهذا الاسم: كانت قريوت الأولى في موآب (عا2: 2)، أما قريوت الثانية فكانت في اليهودية ومن ضمن نصيب سبط يهوذا (يش15: 25). ولا مجال للظن أن يهوذا الإسخريوطي كان أمميًا موآبيًا انحدر من "قريوت" التي في موآب، ولذلك يمكننا أن نقرِّر أن يهوذا الإسخريوطي كان يهوديًا من قريوت، من مقاطعة اليهودية. إذًا فهو التلميذ الوحيد الذي انحدر من اليهودية، بينما جاء كل التلاميذ الآخرين من الجليل. لقد خرج «الإسخريوطيّ» من نفس السبط الذي طلع منه ربنا يسوع المسيح حسب الجسد. ويا له من امتياز كان يجب أن يُشعره بالألفة والقُرب للرب يسوع المسيح أكثر من جميع التلاميذ، وهو الأمر الذي لم يحدث على الإطلاق من جانب يهوذا، فنحن لا نقرأ أبدًا، طوال رفقته للرب، عن حديث متبادل بينه وبين الرب يسوع!
ثانيًا: لقد اختار الرب يسوع «يهوذا الإسخريوطيّ» تلميذًا وهو يعلم تمامًا ماذا سيفعل (يو6: 70)، وأعطاه الفرصة الكاملة، كما يُعطي لأي إنسان شرير على الأرض، لأنه لا يعاقب على إثم قبل حدوثه، ولا يمنع إنسانًا من فرصة طيبة يمكن أن يقتنصها، حتى يستد كل فم، ولا يحتج أحد أمام الله بأنه لم يُعطَ فرصته الكاملة في أرض الأحياء .. وهنا يمكن أن نقف مشدوهين، إذ كيف يحب المسيح ذاك الخائن، ويُطعمه ويأويه، وهو يعلم أنه يقترب من الخيانة يومًا بعد يوم .. ولكن «يهوذا» يُعطينا نموذجًا عجيبًا على صبر المسيح وحنانه وإشفاقه على أشر الخطاة وأحط الأثمة.
ونحن نعلم أن المسيح اختار تلاميذه بعد ليلة قضاها في الصلاة، وهو لم يختره اعتباطًا، ولا اختاره ليكون خائنًا. فمن المؤكد أنه كان يملك وزنات طبيعية حباه بها الله، وأحاطها الرب يسوع المسيح بكل ما يمكن أن تُحاط به الوزنات، لعلها تنمو وتُستخدم على أفضل صورة، ولكنه ـ للأسف الشديد ـ دفنها ونظر إلى سيده كما نظر صاحب الوزنة الواحدة، واتهمه بالشدة والقسوة والصرامة، من غير حق (مت25: 24-28).
واختيار الرب ليهوذا تلميذًا، لم يكن مجرد اختيار شكلي يُمكِّن يهوذا من الاحتجاج بأنه وضع "صورة" فحسب، دون أن يمارس المسئولية فعلاً، لأن المسيح اختاره أمينًا للصندوق، وبهذا فقد جعله الرب موضع ثقة وتقدير. ومن الجائز أنه كان أقدر التلاميذ من الوجهة المالية، وأقدر من متى العشار نفسه. في للمكانة الممتازة التي تمتع بها يهوذا بين الاثني عشر!!
ومع أنه كان أمينًا للصندوق، إلا أنه تجاهل تحذيرات الرب يسوع عن الطمع والرياء (مت6: 19-21؛ لو12: 1-3) واستغل الأموال لحسابه. ولتغطية جشعه، فقد تظاهر بالغيرة على الصندوق (يو12: 4-6). ولعل التعليم الذي قدَّمه الرب يسوع عن محبة المال، كان مُهدى بصورة مباشرة إلى التلميذ «يهوذا الإسخريوطي». ولكن بدلاً من أن تساعده تحذيرات الرب على التغلب على محبة المال والطمع والأنانية، فقد أشعل المنصب الذي وُضع فيه أنانيته وطمعه، فصار سارقًا، يبتز ما بقي في الصندوق الذي عُهد به إليه (يو12: 6، 13: 29). واستطاع يهوذا أن يخفي حقيقة شخصه عن بقية التلاميذ. وعدم فهم التلاميذ لحقيقة يهوذا، يُرينا أن معاملة الرب لذلك الرجل لم تتغير رغم أنه كان يعرف كل شيء عنه، وآخر عمل عمله معه أنه أعطاه اللقمة رمزًا للود والمحبة «وَالْمَحَبَّةُ تَسْتُرُ كُلَّ الذُّنُوبِ» (أم10: 12؛ 1بط4: 8).
وبالإضافة إلى أن يهوذا تمتع بتقدير الرب يسوع، إذ اختاره أمينًا للصندوق، فإنه أيضًا تمتع ـ مثل باقي التلاميذ ـ بسلطان عظيم، وانتعش برسالة الملكوت التي أوصاه الرب أن يكرز بها. واختبر خضوع الشياطين فاستطاع أن يُخرجها بسلطان عظيم، وشفى كثيرين بموهبة الشفاء التي أُعطيت له، طهّر بُرصًا وأقام موتى (مت10: 1-8؛ مر3: 13،14؛ 6: 7-13؛ لو9: 1-6). وبالرغم من كل هذه الأمور العظيمة، لم يقتنع الإسخريوطي بالتراجع عن العمل الذي كان مزمعاً أن يأتيه.
ثالثًا: وفي عشاء الفصح الأخير في العُلية، كان الصراع عنيفًا بين الراعي المُحب: الرب يسوع المسيح، وبين الذئب المفترس: الشيطان؛ من أجل يهوذا. ورضي الرب يسوع أن يسعى إلى قلب يهوذا بالمحبة. فقد ركع «السَيِّد والمُعلِّم» على ركبتيه وغسل أرجل التلاميذ، وغسل أيضًا رجلي يهوذا!! .. ويا له من منظر يُثير الدهشة!!
جلس التلاميذ مأخوذين، وقد ظهر عليهم الخجل، إذ كانوا يتنازعون فيما بينهم: مَنْ يكون الأعظم (لو22: 24-27). عندئذ شعروا بالاتضاع، وأحسّوا بالمحبة واللطف يعمّ كيانهم، وبشعور الدهشة والسرور تركوا سيدهم يفعل ما يسّره أن يفعله بهم.
واستمر الرب يغسل أرجل تلاميذه في تنازل واتضاع، في صمت وهدوء، حتى جاء دور سمعان بطرس الذي أظهر اعتراضه فتوقف العمل حينًا. وحدّثنا الرسول يوحنا في إنجيله عن احتجاج بطرس الشديد على عمل الاتضاع العجيب هذا، ولكنه لا يذكر شيئًا من هذا القبيل عن يهوذا. ولو أنه كان يليق بأحد التلاميذ أن يعترض على ذلك التصرف من السيد والمعلم، لوَجب أن يكون هو يهوذا بل منازع. فقد كان ينبغي أن يذكر خطيته المطمورة في قلبه، فيرفض أن يقترب منه السيد والمعلم متضعًا بهذه الدرجة!
اقترب الرب يسوع حيث جلس يهوذا في مقعده، وانحنى أمامه على الأرض بكل تواضع ومحبة، وغسل رجليه كما غسل أرجل كل التلاميذ. وتصوّروا معي: «ربي وإلهي» يغسل أوساخ القدمين، ويتطلع في وجه يهوذا. هل انسكبت دموع غالية من عينيه الطاهرتين، لتأخذ مكانها عند القدمين الملوثتين؟ لقد كان "حلو اليدين" يُخاطب قلبه، وكان يقرع على باب قلبه. كانت القرعات قوية تجسَّمت فيها كل معاني المحبة وإنكار الذات، فقد ركع السَيِّد والمُعلِّم على ركبتيه، وغسل رجلي يهوذا!!
ألم تلتقِ نظراتك يا يهوذا وقتئذ بعيني سيدك؟! ألم تحس بقشعريرة تسري في بدنك لتحرِّك مشاعرك عندما لامست اليدين الطاهرتين قدميك المتسخة؟! كيف جاهدت حتى تضبط مشاعرك؟! وكيف جرحت أحاسيس المُحب الذي ألقى إليك بحبه الغامر لإرجاعك عن طريق الهلاك؟! كيف احتفظت بصمتك فلم تتكلم؟! كيف أفلتَّ من نظرات الرب حتى لا تخونك أعصابك كما خنت أنت سيدك؟! كيف بعد كل هذا استطعت أن تخون المجيد الفريد الذي «إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى» (يو13: 1)؟
وبعد أن أكمل السيد غسل الأرجل، أخذ المنشفة التي اتزر بها، وكان يجفِّف الأرجل التي أزال أوساخها في صمت مُطبق ورهيب. وأمام صمت المُعلِّم، ربما أخذ يهوذا يُمنّي نفسه بأمنية كاذبة: "ربما لا يعرف المُعلِّم شيئاً عن عزمي". ولربما أخذ يعزي نفسه بهذه الهواجس المحمومة .. ولكن الرب يسوع قطع حبل التفكير والظنون بكلماته الرائعة: «ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». وعلم يهوذا ـ تمام العلم ـ لماذا اضطر الرب يسوع أن يضع هذا التحفظ في تصريحه «لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ لِذَلِكَ قَالَ: لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ» (يو13: 10،11). ورغم هذا التصريح المباشر، لم تحرِّك هذه الكلمات قلب يهوذا ولا ضميره، وتسلّلت الكلمات من أذنيه ومن قلبه، ومرّت كغيرها دون أن يحرِّك ساكناً ... في للقساوة!!
رابعًا: وفي هذا المقام، جاء تحذير آخر، وجهه الرب إلى التلميذ الذي كان مُزمعًا أن يخونه. وفي هذا التحذير أشار الرب إلى جريمة مُشابهة أخذت مكانها على مسرح أحداث العهد القديم؛ جريمة الخائن القديم أخيتوفل الذي خان سيده الملك داود، مسيح الرب، الأمر الذي أدىّ به في النهاية إلى الانتحار. لقد قال الرب مُحذراً: «اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ» (يو13: 18؛ مز41: 9). أما كان يجب أن يسترجع يهوذا من كلمات التحذير الجديد صورة العقاب الذي يصيب الإنسان بسبب رفضه محبة ابن الله، المسيح الرب؟
لقد كان موقف يهوذا من الرب هو تمامًا موقف أخيتوفل من داود ..
خان أخيتوفل سيده داود، وه يهوذا يحيك المؤامرة كي يخون سيده الرب يسوع ..
أكل أخيتوفل من خبز داود، وها يهوذا يأكل مع الرب يسوع من صحفة واحدة ...
وخيانة أخيتوفل أدّت به في النهاية إلى الانتحار .. فحذار ي يهوذا .. حذار .. إن الطريق الذي تسير فيه خطر.
أولم يعلن الرب أيضًا، في محبته ورحمته، القضاء الرهيب: «إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!» (مت26: 24؛ مر14: 21)؟ وكان قصد الرب يسوع من كلمات ذلك القضاء أن يتذكر يهوذا الخطر الذي كان يُسرع إليه فيتراجع عن الجريمة التي أوشك أن يرتكبها. وبكل أسف، لم يرَ يهوذا ذلك التشابه بينه وبين أخيتوفل، ولم يصدِّق شيئًا مما قيل أمامه. في للإصرار!! ... ويا للعناد!!
خامسًا: ثم جلس الرب يسوع إلى المائدة مع تلاميذه، وأخذ كل واحد من التلاميذ مكانه المخصَّص له. وفي تلك الأيام كان الضيوف يجلسون على وسائد على الأرض ويتكئون في جلستهم إلى الأمام، فيضطجع الواحد بجسمه مُحملاً على ساعده الأيسر، بينما يتناول الطعام والشراب من المائدة التي أمامه بيده اليُمنى. وبالتأكيد، كان الرب يسوع – السَيِّد والمُعلِّم -  يجلس في الوسط، وعلى يمينه يوحنا الحبيب لأنه كان «مُتَّكِئاً فِي حِضْنِ يَسُوعَ» (يو13: 23). ولكن ماذا عن الجانب الأيسر من المُضيف ورئيس المُتكأ، والذي جرى العُرف القديم أن يجلس فيه ضيف الشرف في الوليمة، وعُرف عن ذلك المكان أنه مكان الصدارة والشرف لأهم ضيف في العشاء كله، وجرت العادة الشرقية القديمة أن يتكئ المُضيف برأسه على صدر ضيف الشرف الجالس على يساره، ويُطعمه بيده. مَنْ ي تُرى الذي جلس على الجانب الأيسر من الرب يسوع المسيح؟!
لا يمكن أن نفترض للإجابة على ذلك اسم سمعان بطرس، فقد احتاج الأمر أن يومئ بطرس إلى يوحنا لكي يسأل الرب نيابة عنه عمن هو الذي يسلمه (يو13: 24). فإن لم يكن بطرس هو الذي جلس على الجانب الآخر من الرب يسوع، فمَنْ يكون إذاً؟!
أرجو - عزيزي القارئ - ألاّ تتعجب عندما تعلم اسم التلميذ الذي شرّفه الرب بالجلوس عن يساره، مُميزًا إياه عن غيره، فلم يكن ذلك التلميذ سوى «يهوذا الإسخريوطي» .. في للشرف!!
وقد يتطرق الشك إلى قلوب الكثيرين من هذا الاستنتاج. فكيف يرضى الرب أن يجلس يهوذا بجانبه؟! وكيف يضعه في نفس الدرجة التي يضع فيها يوحنا «التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ»؟! ويدحض البشير متى كل شك بما تضمنه إنجيله، فقد شعر كل التلاميذ بالأسف عندما أنبأهم سيدهم أن واحدًا منهم سيسلمه، ومن أجل ذلك سألوه جميعًا: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟». وردد يهوذا السؤال للرب، يشفعه بلقب بارد، كتلك الألقاب الرسمية المتداولة بين الناس، ««هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟» (اي مُعلِّم؟ Is it I, Rabbi ). فأجابه الرب بهذه العبارة الصريحة: ««أَنْتَ قُلْتَ» (مت26: 20-25). وليس من المعقول أن التلاميذ سمعوا هذه الإجابة ولم يحركوا ساكنًا. إذًا لم تطرق أسماعهم كلمات الرب الخطيرة التي أجاب بها سؤال يهوذا. ولو سمع أحد شيئًا من ذلك، لمَا كان بطرس يومئ برأسه إلى يوحنا، يوعز إليه أن يسأل الرب عن اسم الشخص الذي يقصده بالذات. ولو أن التلاميذ سمعوا الإجابة، ما تركوه يمضي لكي يوقع المُعلِّم والسَيِّد المحبوب في أذى أو شر. ولا يوجد شرح أو تعليل لصمت التلاميذ أمام هذه الكارثة التي أوشكت على الوقوع، غير أنهم لم يسمعوا ذلك التصريح الذي أجاب به الرب يسوع تلميذه الخائن، ولم يكن ممكنًا أن يمر الأمر بهذه السهولة ما لم يكن الرب قد نطق بتلك الإجابة بصوت منخفض يكفي لتوصيلها إلى أذني يهوذا وحده.
ونتصور الرب يجلس، يميل على يهوذا ويهمس في أذنه بالرد على سؤاله. ثم تظهر ملامح الصورة كاملة، فنرى الرب يجلس بين يوحنا الحبيب من ناحية، ويهوذا الإسخريوطي من الناحية الأخرى.
وكانت الصورة مظهرًا رائعًا للمحبة الإلهية، الفائقة المعرفة، التي تتسم أحيانًا بالغموض وعدم الفهم من جانبنا، فقد ظل الخائن في عناده وإصراره، رغم احتلاله المكان المقرَّب من قلب سيده، ورغم لفتات الحب العجيب، ولم تُذِب هذه المنزلة الخاصة قلبه فيتوب ويرجع عن غيه، بل تقسى قلبه أكثر وتحجَّر. ولربما ظن أن خطته في مأمن من الرب يسوع نفسه، فلو أن سيده كشف ما اعتزم أن يفعله، ما رضي أن يُجلسه في ذلك المكان القريب من قلبه.
سادسًا: ومرة أخرى حاول الرب أن يبرهن ليهوذا أنه مع معرفته بكل شيء، فإنه لا يزال يحبه. ولقد كانت العادة لدى اليهود أن يغمس الشخص لقمة في الصحفة المشتركة، ويعطيها لضيف الشرف في الوليمة، علامة على المحبة الخاصة والتقدير. ولهذا فإن الرب عندما غمس اللقمة وأعطاها ليهوذا، كان الرب قد أجاب على سؤال يوحنا: ««يَا سَيِّدُ (يا رب) مَنْ هُوَ؟» (lord, who is it? )، بالقول: «هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ» (يو13: 25،26). إلا أن الرب لم يُعطِ اللقمة، رمز المحبة، كعلامة ليوحنا ولبطرس فقط، ولكنه رغب في أن يؤكد ليهوذا أنه بالرغم من معرفته الكاملة، إلا أن قلبه لا يزال مملوءًا بالحب له.
وقصد الرب بهذه الوخزة أن يستيقظ ضمير يهوذا النائم. وكان يكفي أن ترسم هذه المحاولة الأخيرة أمام يهوذا الخائن صورة الراعي الصالح الذي يُفتِّش عن خروفه الضال. ولم يكن أمام يهوذا سوى فرصة واحدة باقية؛ هذه الفرصة هي أن يتجاوب مع محبة المخلِّص، ويواجه نفسه بصراحة، ويدرك الخطية التي سقط فيها، ثم يطلب غفران الرب ورضاه. ولكن طالت مقاومة الإسخريوطي حتى انتهى به الأمر إلى حالة من العصيان والقساوة، جعلته يسلم نفسه بكبرياء وغرور للشيطان «فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ» (يو13: 27).
عندما تسطع الشمس على بِِركة ماء راكدة، فإن أشعتها التي تُبهج الخليقة، تُخرج من البِركة رائحتها المنفّرة التي لولا هذه الأشعة لظلت كامنة حبيسة. وهكذا محبة الله، فهي دائمًا رائحة حياةٍ لحياةٍ أو رائحة موتٍ لموتٍ. ويبدو هنا أن نفس قوة محبة المسيح قد دفعت يهوذا إلى ما يكاد يكون الجنون بعينه. وإذ أغلق قلبه بإصرار دون المخلِّص ومحبته، فتحه للشيطان، «فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ». وعلى التو رأى الرب التغيير، وعلم أنه لن يمكنه أن يعمل شيئاً أكثر من هذا لينقذ هذا التلميذ من الحفرة التي حفرها لنفسه، ولذلك قال له الرب: «مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ» (يو13: 27).
فعند ذلك الحد انتهى الصراع العجيب الذي أخذ مكانه في العُلية، وصدر الحكم على يهوذا بتركه يعمل. كان الرب يسوع يعمل كل جهده حتى لا ينجرف يهوذا في ذلك التيار، لكنه إذ أصرَّ على أن يعمل، ودخل الشيطان قلبه ليعمل، فليعمل. وهكذا أسلمه الرب إلى شهوة نفسه وإلى عناد قلبه ليفعل ما لا يليق (رو1: 24،28). لقد أحبَّ أجرة الظلم والإثم، فأسلمه الله للهلاك. كان قلبه كالصوَّان، فقد طال عهده بالقساوة، فأسلمه الله إلى قساوة قلبه ليتمِّم به مقاصده. وإذ قد باعد بين الرب يسوع وبين نفسه، لم يكن أمامه سوى التدهور إلى حضيض الهاوية. وانقض النسر على الجثة التي فارقتها الحياة، وكانت نفس كلمات المسيح مقسية لقلبه وختمت على هلاكه.
وخرج يهوذا من العُلية، ولم يعرف التلاميذ الآخرين إلى أين كان ذاهبًا، ولو أنهم عرفوا ما كان يدور في قلبه، ما تركوه يمضي من العُلية بسلام. لعلهم ظنوا أن يهوذا مضى بعد العشاء ليعّد التقدمات التي كانوا سيقدموها للفقراء في العيد (يو13: 29).
لقد خرج يهوذا إلى ليلٍ حالك السواد، لم تخفف من حدة سواده سوى ومضة واحدة، وذلك عندما حاول الرب مرة أخرى في البستان أن يمس قلب يهوذا بهذه الكلمات: «يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ؟» ... «يَا يَهُوذَا أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟» (مت26: 50؛ لو22: 48). ومَنْ كان يتصوّر مثل هذه الرقة في ظرفٍ كهذا؟! في نظر الكثيرين كان من الأنسب أن يقول له الرب: "اذهب عني يا شيطان"، لكننا نسمع صوتًا كنبرات صوت أبٍٍ مُحب أراد أن يرُّد نفس الابن السائر في طريق الغواية. وهكذا نجد أن الرب لم يترك وسيلة، بل سمح، وفي البستان، بقَرعة أخيرة على باب قلبه.
ولقد وصف الرب يسوع يهوذا الإسخريوطي بالوصف البالغ الأسى «ابْنُ الْهلاَكِ» (يو17: 12). وقال عنه أيضًا: «كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ» (مت26: 24؛ مر14: 21). وكيف لا، وقد خرج من حضرة الرب يسوع المسيح ليواجه ليله الأبدي «فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ. وَكَانَ لَيْلاً» (يو13: 30). لم يكن ليله مجرد ليل الطبيعة الذي أرخى سدوله في كل مكان، بل كان الليل الأعمق في داخله الذي حلََّ فيه الشيطان وملأه ظلامًا. ليلٍ في الخارج، وليلٍ في الداخل. وكما لو كان رداء الظلام الأسود رمزًا متجاوبًا مع سواد الظلام الذي كان يلف نفسه. وهذا المخلوق التَعِس، الذي رفض وبإصرار محبة الرب يسوع، والمبيع بجملته تحت سلطان قوات الظلمة، أصبح الآن مهيَّئًا ليرتكب أبشع جريمة في التاريخ.
ولقد ندم يهوذا على فعلته أخيراً، وقال: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئًا» (مت27: 4). ولكن هذا الاعتراف بالخطية كان أشبه باعتراف فرعون الذي قال لموسى: « أَخْطَأْتُ» وكان أشبه باعتراف شاول عندما قال لصموئيل: «أَخْطَأْتُ لأَنِّي تَعَدَّيْتُ قَوْلَ الرَّبِّ» أو عندما قال لداود: ««قَدْ أَخْطَأْتُ. ارْجِعْ يَا ابْنِي دَاوُدُ» (1صم15: 24، 26: 21). وكانت النقطة المهمة في مثل هذا الاعتراف أنه إحساس بالجُرم دون الالتجاء إلى رحمة الله ومحبته!! فذهب يهوذا إلى الليل الأبدي بدون رجاء!! وهكذا كل مَنْ باع الرب يسوع المسيح، ورفض محبته، واستبدلها بمتاعٍ أو شهوةٍ أرضيةٍ، لن يجد أمامه إلا الموت والمقبرة المُخيفة، والظلام والليل الأبدي.
عزيزي، إن الجرثومة التي عملت في يهوذا، توجد في كل واحد منا، وقد تنمو وتتكاثر قبل أن ننتبه لها، وإن كنا لا نضع أنفسنا في وقت مبكر تحت حماية النعمة الإلهية والمحبة الفدائية، فإن الشيطان لا يكف عن أن «يَجُولُ، كَأَسَدٍ زَائِر،ٍ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (1بط5: 8)، فليتك تُسرع لأجل خلاص نفسك، ولا تهدأ إلا بعد أن تلقي بنفسك في أحضان محبة الرب يسوع المسيح الرقيقة العطوفة الحانية، التي تسمو على الخطية، والتي تتعظم في خلاص أشرّ الخطاة إذا لجأوا إليها ... وإياك أن تفعل كما فعل «يهوذا الإسخريوطي» وترفض محبة الرب يسوع.
فايز فؤاد
 
أما وقد كان يهوذا أميناً للصندوق، فلا شك أن ذلك يؤكد أنه مصدر ثقة ولعل الرب يسوع أراد أن يؤكد له أنه على استعداد أن يمنحه كل ثقة وأن يشجع التلاميذ أيضاً على الثقة فيه. «المحبة تستر كل الذنوب» (أم10: 12؛ 1بط 4: 8)
لكي يجتذبه إلى أحضانه ويستره تحت ظل جناحيه

الرجاء في الأزمنة الصعبة

الرجاء في الأزمنة الصعبة
«وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَصِيرَ النَّهَارُ» (أع27: 29)
«مُنْتَظِرِينَ رَحْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ» (يه21)
 
يا له من ليل يشتد ظلامًا! ليل رفض ربنا يسوع المسيح من العالم، وليل غيابه عنا .. الزمان صعب .. الإثم يتزايد .. كلمة الله مرفوضة .. ابن الله يُهان حتى وسط المسيحية الاسمية .. مبادئ الارتداد تزداد قوة وتأثيرًا .. العالم يُكمل مكيال إثمه لوقوع دينونة الله عليه .. وهوذا «عَلَى
الأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ» .. و«حُرُوبٍ وأَخْبَارِ حُرُوبٍ» .. و«زَلاَزِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ» .. «وَلنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ وَانْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى الْمَسْكُونَةِ» .. الفوضى سائدة في كل مكان .. والناس قائمون ضد القوانين والأنظمة .. الثورات والاضطرابات في جميع الأنحاء .. والشرور تزداد بلا خجل ولا حياء .. الكفر والإلحاد والفجور والإباحية تنتشر .. كل القيم الروحية تُهدَّم .. والمسيحية المعترفة – بكل أسف – أثبتت فشلها كإناء للشهادة ومُستودعًا للحق .. ألا ترى التحول عن الله إلى مجرد ممارسة طقوس وفرائض أدخلها الشيطان، وحوَّل بها المسيحية إلى عبادة وثنية واستعباد لأركان ضعيفة، وصورة خارجية للتقوى مع إنكار قوتها .. وها قد انتشرت في المسيحية خطية العبد الرديء الذي قال فِي قَلْبِهِ: «سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ» (لو12: 45). فذلك العبد لم يُنكر علنًا مجيء المسيح، ولم ينضم إلى الملحدين المستهزئين الذين يقولون: «أَيْنَ هُوَ مَوْعِدُ مَجِيئِهِ؟ لأَنَّهُ مِنْ حِينَ رَقَدَ الآبَاءُ كُلُّ شَيْءٍبَاقٍ هَكَذَا مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ» (2بط3: 3, 4)، ولكنه بينما يعترف بمجيء الرب كعقيدة، فإنه يهمله كرجاء بأن ينغمس في الشهوات الجسدية والارتباطات العالمية، قائلاً فِي قَلْبِهِ: «سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ».
نعم، إن الظلمة القصوى تزحف علينا .. الليل يسوَّد ويشتد سواده .. والذين يقولون أن العالم يتحسن وسيعُم الرخاء والسلام عما قريب، ليس لهم بصيرة روحية، ولا هم مدركون لنبوات الكتاب المقدس، ولا لظروف العالم الحالية.
إن كل شيء مُظلم حتى فيما يختص بالمسيحية المعترفة اليوم .. إن ظلمة التعليم الشرير والارتداد والخراب الأدبي تزداد. والكتابات النبوية تُكلّمنا عن مشهد الظلمة والشرّ في الأيام الأخيرة للمسيحية (اقرأ 2تس2؛ 2تي3؛ 2بط2, 3؛ رسالة يهوذا)، وجميعها تصف أيام الظلمة هذه مع ازدياد الشر، وأحوال بلا أمل في إصلاح أو شفاء.
ففي رسالة تيموثاوس الثانية نجد الخراب يدب في المسيحية، وأما عودة الكنيسة إلى جمالها وإلى قوتها الأولى وترتيبها، فلا توجد إشارة إلى ذلك.
والرسول بطرس، في رسالته الثانية، يكتب عن نفس هذه الأيام، ويذكر فسادًا يستشري في العالم، وبدع هلاك وتجديفًا على الحق، وفجورًا عتيدًا أن يكون، وميلاً إلى النجاسة، ولكنه لا يُشير إلى قوة تعود للكنيسة كمجموع.
نعم – أيها الأحباء – إننا لا ننتظر تحسنًا في الظروف والأحوال. والأيام المقبلة لن تكون أفضل من الماضية. بل إن الكتاب يُخبرنا أن الشرّ سيزداد «إِلَى
أَكْثَرِ فُجُورٍ» (2تي2: 16)، و«النَّاسَ الأَشْرَارَ الْمُزَوِّرِينَ سَيَتَقَدَّمُونَ إِلَى أَرْدَأَ، مُضِلِّينَوَمُضَلِّينَ» (2تي3: 13)، والشرّ سيزداد، والإضطرابات ستتفاقم، فنحن في «الأَيَّامِالأَخِيرَةِ» و«الأزْمِنَةٌ الصَعْبَةٌ» التي تسبق مجيء المسيح الثاني (2تي3: 1)، وهي مقدمات للضيقة العظيمة. ويقينًا أننا الآن في آخر لحظات الليل، وبعد قليل سيبزغ «كَوْكَبُ الصُّبْحِ الْمُنِيرُ»؛ فشدة الظلام تُنبىء بقرب بزوغ الفجر.
ويهوذا أيضًا يكتب عن أيام الانحطاط والارتداد، وعن خراب المسيحية الاسمية، ولكنه لا يتكلم شيئًا عن استرداد القوة الروحية للكنيسة أو استرجاع جمال الترتيب الإلهي فيها بصفة عامة. ولكن بعد أن تحدَّث عن الارتداد المُريع والشر، فإن يهوذا يتحول إلى المؤمنين «الأَحِبَّاء»، ويُحرّضهم أن يفعلوا أربعة أمور؛ هذه هي الأربعة الأشياء الضرورية في يوم الشر (يه20, 21):
فأول كل شيء:
«ابْنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمُ الأَقْدَسِ»، أي مبادئ الإيمان كما تسلمناها من كلمة الله مباشرة، بعيدًا عن أي إضافات بشرية، أو اجتهادات عقلية باطلة.
ثم يقول:
«مُصَلِّينَ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ»؛ فيجب على كل مؤمن حقيقي أن يصرف وقتًا مُتكلمًا مع الله الذي تحدَّث إليه في الكلمة المكتوبة. والصلاة في الروح ليست هي صلاة الواجب، أو الصلاة الشكلية، أو مجرد تكرار كلمات، بل هي الصلاة المقودة بالروح القدس، والتي تتطلب سلوكًا في الروح، وتدريبًا في الحكم على الذات.
وثالثًا:
«احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ فِي مَحَبَّةِ اللهِ»ليس المعنى هنا أننا يجب أن نحب الله، مع أن هذا ما يجب أن نفعله بالتأكيد، بل أننا نحفظ أنفسنا في التمتع بمحبته؛ أن يخصص كل منا محبة الله لنفسه، وأن نفسر كل أعماله معنا على أساس هذه المحبة الغير المحدودة. ويجب أن نظل واثقين أن محبته تعتني عناية دقيقة بكل منا في كل ظروف حياتنا؛ السار منها والمُحزن.
ورابعًا: فإننا نُحرَّض لكي نكون
«مُنْتَظِرِينَ رَحْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ»إن رحمة ربنا يسوع المسيح تُشير هنا إلى عودته الوشيكة لأخذ شعبه إلى موطنهم السماوي. ففي أيام الظلمة والارتداد، علينا أن نُبقي على نور الرجاء المبارك مُشرقًا في قلوبنا. وهذا الرجاء سيعمل على تعزيتنا وتطهيرنا (1تس4: 18؛ 1يو3: 3). إن مجيء الرب إلينا سيُصبح رحمة عظيمة للقديسين – إنقاذًا وخلاصًا لخاصته من كل الشرور والضغوط، ومن كل أشكال خراب المسيحية الأسمية، وأيضًا من كل المصاعب المحيطة بنا.
ويرى البعض في تحريضات يهوذا الأربعة (يه20, 21)، تصويرًا بديعًا للمراسي الأربع التي نقرأ عنها في رحلة الرسول بولس إلى روما (أع27)، والتي تمثل لنا رحلة الكنيسة المعترفة، من بدايتها المجيدة إلى أيامها الأخيرة. فما قد ابتدأ في العصر الرسولي في حالة إشراق وضياء، سينتهي به الحال إلى الخراب.
فالسفينة في أعمال 27 تُمثل المسيحية كإناء للشهادة للحق. ويا للأسف، لقد جاء وقت فُرِّغت فيه السفينة من
الشَّحْن (أع27: 10, 18)، ثم طُرحت الْحِنْطَة في البحر (ع38). وما الشَّحْن والحِنْطّة إلا إشارة إلى الحق الذي أؤتمنت الكنيسة عليه، لا لكي تُعلِّمه – لأنه ليس لها مطلقًا سلطة التعليم – وإنما وُضعت عليها مسؤولية الاحتفاظ به.
كما جاء الوقت الذي ما عادت إنذارات الرسول بولس أن تلقى آذانًا صاغية. فالحق الإلهي، الذي يُمثله الرسول بولس، لم يعد يُطاع في السفينة (ع11). وكلمة الله متى أُغفل أمرها فلا بد أن تسوء الأمور. ولقد أتى وقت كان فيه كل شيء مظلمًا وبلا أمل «وَإِذْ
لَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ وَلاَ النُّجُومُ تَظْهَرُ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَاشْتَدَّ عَلَيْنَا نَوْءٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ،انْتُزِعَ أَخِيرًا كُلُّ رَجَاءٍ فِي نَجَاتِنَا» (ع20).
واحتجاب السماء عن ركاب السفينة يُشير إلى أن الدعوة السماوية قد غابت عن الكنيسة، وفقدت المسيحية طابعها السماوي، فما عاد هناك رجاء للسفينة؛ إنه مقضي عليها بالدمار. إن السفينة ستنكسر – كما قال بولس – ولكن لن تكون هناك خسارة نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ (ع22). كذلك الكنيسة المُعترفة، كإناء للشهادة، ستنتهي بانكسارها، ولكن الرب سيأخذ لنفسه منها ، إلى المجد، كل مؤمن حقيقي.
نعم، ستتكسر السفينة، وستغوص كل القطع ولن تطفو ثانية، لكن كلمة الله تعلن أن كل مؤمن في المسيح يسوع له حياة أبدية، ولن يهلك إلى الأبد (يو10: 27, 28)؛ الجميع سينجو إلى
الْبَرِّ الآمن (أع27: 44).
لاحظ أنه في أعمال27: 29 رموا أربع مراس «وَكَانُوا
يَطْلُبُونَ أَنْ يَصِيرَ النَّهَارُ» (أع27: 29)، وبالنسبة لنا، فإن نهار مجيء الرب إلينا هو الرجاء والتوقع المشرق للكنيسة الحقيقية. وبينما كانت السفينة تضع المراسي كانت محفوظة، ولكن في اليوم التالي عندما نزعوا المراسي، تاركين إياها في البحر (ع44)، أنهم وقعوا في مكان ملتقى بحرين، وعندئذٍ تكسرت السفينة.
فعلينا – أيها الأحباء – أن لا نتخلى عن المراسي. إن دائرة الاعتراف المسيحي قد نزعت عنها هذه المراسي الواردة في يهوذا20, 21 ولم يعودوا يؤمنون بالكتاب المقدس أنه كلمة الله المعصومة والمُوحى بها. كما تحولوا عن الإيمان الأقدس، وتخلّوا عن الصلاة، ومحبة الله غير معروفة، ولم يعودوا يؤمنون أو يتطلعون إلى رجاء مجيء الرب، لذلك سرعان ما ستتكسر السفينة، والله سيرفضها نهائيًا.
ولكم نحتاج – أيها الأحباء – كمؤمنين وقعت قرعتنا في هذه الأيام الصعية أن ننتبه إلى مدلول تلك المراسي الأربع وأن نهتم بها. ومع أن كل شيء يبدو حولنا مظلمًا بلا أمل ، ومع أننا نُقرّ بعجزنا وضعفنا وفشلنا، لكننا ننتظر بزوغ فجر ذلك اليوم الذي تنتهي فيه كل مسبببات الحزن، وتستقيم كل الأمور. إن مجيء الرب وبزوغ كوكب الصبح المنير، هو شوق قلوبنا وتطلع أرواحنا، وهو الغرض الذي نطلبه ونبتغيه (قارن عب11: 14, 16).
أيها الأحباء ... ما أحرانا أن نرقب مجيئه عالمين أن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا. «قَدْ
تَنَاهَى اللَّيْلُ وَتَقَارَبَ النَّهَارُ» (رو13: 11-14)، ونجاتنا تقترب جدًا. وفي انتظارنا لمجيئه القريب لنكون معه كل حين (1تس4: 17)، لترتفع قلوبنا وأنظارنا عن مشهد الخراب هذا، ولتتشدد سواعدنا لنكون أمناء حتى النهاية، إذ أن نهاية كل شيء قد اقتربت، وهوذا «يأتَى صَبَاحٌ» (إش21: 12).

المرأة الفاضلة

المرأة الفاضلة: خدمتها ومسؤوليتها

«هِيَ كَسُفُنِ التَّاجِرِ»

(أم31: 14)

إنه مما يتناسب مع جمال وكمال كلمة الله أن يُختَّم سفر الأمثال بتلك الصورة الجميلة، التي يرسمها الروح القدس، للمرأة الفاضلة، والتي تُرينا كيف أن الحكمة (ذات حياة الرب يسوع المسيح) يُمكن، بل ويجب، أن تظهر في تفاصيل الحياة العائلية اليومية (أم31: 10-31).
والمرأة الفاضلة هي امرأة حسب قلب الله، يُمكن الاعتماد عليها في كل الظروف، وفي كل الطوارىء، ولكل المهام الصعبة. وإذ هي على درجة عالية من الكفاية والنشاط، والإحساس بكرامة وأهمية خدمة البيت، فإن قيمتها لا يُمكن أن تُقارن بقيمة اللآلىء مهما يكن قدرها عاليًا «لأَنَّ ثَمَنَهَا يَفُوقُ الَّلآلِئَ» (أم31: 10 قارن من فضلك أمثال 3: 13-15).
وكلمة «فاضلة» تعني أن هذه المرأة لا تكتفي فقط بتنفيذ ما عليها من واجبات نحو زوجها وأولادها، لأنها إن فعلت ذلك فقط فأيُّ فَضْلٍ لها؟! فلا شكر على واجب كما يقولون. ولقد قال الرب: « مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ (من خير وصلاح) فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ. لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا» (لو17: 10).
لكن "الفضل" هو أن تعمل المرأة فوق المطلوب منها، حُبًّا في إلهها وزوجها. وهكذا كان أبطال داود الذين لم يُؤمروا من داود بإحضار ماء له من بئر بيت لحم، لكن حبهم لداود جعل رغبته أوامر صادرة لهم لينفذوها، وهذا هو "الفضل" (قارن من فضلك هوشع 14: 4؛ متى5: 47؛ لوقا6: 32-34؛ 17: 7-10؛ 1بطرس2: 19, 20). وهكذا فالمرأة الفاضلة تتشبَّه بالله الآب، وقدوتها الرب يسوع المسيح، ويُحركها الروح القدس. إنها تعمل باجتهاد ونشاط أولاً من أجل الذين في دائرة بيتها، ثم من أجل الذين هم من خارج. وهكذا فهي تعتبر نفسها مسؤولة عن:
(1) زوجها (ع11)
(2) أولادها (ع28)
(3) أهل بيتها (ذويها وأقاربها) (ع15)
(4) فتياتها (الذين يخدمونها) (ع15 قارن تكوين24: 61؛ 1صموئيل25: 42)
(5) الفقراء والمساكين من شعبها (ع20)
(6) الخطاة من حولها (ع16- فالحقل هو العالم- متى13: 38)
(7) الشهادة لإلهها (ع18)
ويصف الحكيم المرأة الفاضلة بأنها «هِيَ كَسُفُنِ التَّاجِرِ. تَجْلِبُ طَعَامَهَا مِنْ بَعِيدٍ» (ع14). ويا لروعة الصورة! ويا لجمال التشابه بين المرأة الفاضلة وبين سفن التاجر! وأوجه التشابه بينهما كثيرة ومتعددة، وتُفسّر لنا كيف تستطيع المرأة الفاضلة أن تُتمّم مسؤولياتها المتعددة بيدين ممدودتين بالعطاء، وبقلب مملوء بالفرح، إذ أنها «تَشْتَغِلُ بِيَدَيْنِ رَاضِيَتَيْنِ» (ع13):
أولاً: يجب أن يكون لسفن التاجر ربان، والرب يسوع هو ربان سفينة حياة المرأة الفاضلة.
ويا له من ربان للقلب والبيت والحياة! ياله من قائد مقتدر! ياله من قبطان يُبحر معنا في رحلة الحياة إلى الأمام صوب الشاطئ الآخر، حيث وطننا وديارنا.

والمرأة الفاضلة تُدرك جيدًا أن ذاك المجيد الذي خلَّصنا بتضحية حياته، له وحده حق الملكية علينا، بحيث لم يعد لنا الحق في أن نعمل مشيئتنا الخاصة في هذا العالم. إن له وحده حق السيادة المطلقة علينا. إنها تعيّ جيدًا أن الفداء قد وضعنا جميعًا، أحداثًا وشيوخًا، رجالاً ونساءً، تحت سيادة لا تسمح لنا فيما بعد أن نعيش لأنفسنا. ليس لنا الحق فيما بعد أن نسلك بحسب أفكارنا الخاصة، لكن إرادة «رَبِّي وَإِلَهِي» يجب أن تكون على الدوام القانون الوحيد لسلوكنا، والمحرك لدفة الكيان كله، ومصدر القوة للحياة المسيحية الشاهدة.
إن المرأة الفاضلة تعرف أن تقول للرب، كما قال صموئيل الصبي الصغير: «تَكَلَّمْ(يَا رَبُّ) لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ» (1صم3:9, 10)، وتعوَّدت أن تسأل كما سأل شاول الطرسوسي: «يَا رَبُّ مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أع9: 6)، وتعلَّمت أن تجلس عند قدميه، كما جلَّست مريم، لتقبل كلامه داخلها، ولتتمتع به لنفسها، فلا تجد صعوبة بعد ذلك في أن تذهب لتتمم مشيئته في حياتها.

ثانيًا: سفن التاجر تهتدي بالبوصلة، والمرأة الفاضلة تهدي حياتها وبيتها بكلمة الله.
فالمؤمن الحقيقي هو سائح في هذا العالم المظلم، في طريقه إلى السماء، والطريق الذي يسير فيه مليء بالمكايد والأخطار، وبدون نور كلمة الله لتضيء له وتُريه هذه العوائق، فسوف يسقط عند كل خطوة يخطوها. ولكن الله أودع في كلمته كل الإرشادات اللازمة لتضيء لنا الطريق الذي نتبعه. إنها تنير أذهاننا لنعرف الأمور المختصة بالله وبأنفسنا «فَتْحُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ يُعَقِّلُ الْجُهَّالَ» (مز119: 130).
وكلمة الله بالنسبة لنا هي السراج المُنير في الموضع المُظلِم (2بط1: 9)،
«سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي» (مز119: 105). هي سراج في الليل، ونور في النهار، ولذة في كل الأوقات. فسواء كنا في الليل أو النهار، فإننا نحتاج إلى كلمة الله لنعرف ماذا نفعل.
و"الليل" يُشير إلى الظلمة الأدبية والروحية التي تُغطي هذا العالم، كما إلى وقت التجارب والمقاومات والمخاصمات. بينما "النهار" يُشير إلى زمن النجاح والازدهار والراحة. ونحن نحتاج إلى كلمة الله في كل الظروف لتنير لنا الطريق وتقودنا إلى الحياة السعيدة الناجحة «لأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِصْبَاحٌ وَالشَّرِيعَةَ نُورٌ»
(أم6: 23).
والمرأة الفاضلة «
تُنَطِّقُ حَقَوَيْهَا بِالْقُوَّةِ وَتُشَدِّدُ ذِرَاعَيْهَا» (ع17). ومنطقة الحقوين تعني الخضوع لحق الله، وتطبيق الحق عمليًا على الحياة والسلوك (أف6: 14). وبواسطة الحق تتمنطق الأحقاء بالقوة، والاستعداد للخدمة اليومية. وما من مؤمن يؤدي خدمته بلياقة وكفاءة ما لم تسيطر كلمة الله على أحقاء ذهنه (1بط1: 13). إن نفوسنا تكتسي بثياب فضفاضة من رغبات وميول وعواطف وشهوات تتدلى وتعرقل مسيرنا بسبب اشتباكها بالأمور العالمية. إنها تعطلنا عن الركض في ميدان السباق المسيحي، فلا يجب أن نعطيها فرصة وإلا تعرضنا للخطر «لِذَلِكَ مَنْطِقُوا أَحْقَاءَ ذِهْنِكُمْ صَاحِينَ» (1بط1: 13).
والمرأة الفاضلة «
سِرَاجُهَا لاَ يَنْطَفِئُ فِي اللَّيْلِ» (أم31: 18). إنها تحب شهادات الرب الحكيمة التي تمدها بالمشورة وقت الحيرة، وهي في مفترق الطرق، ووسط الخوف والقلق، وفي زمن الاحتياج والعوز. فكلمة الله هي مُعلِّمة ومُرشدة، وهي تحدد المواقف، وهي الفصل النهائي لحسم كل خلاف وكل موقف. وهكذا فلسان حال المرأة الفاضلة:«أَيْضاً شَهَادَاتُكَ هِيَ لَذَّتِي أَهْلُ مَشُورَتِي» (مز119: 24). وحكمتها وفطنتها هي في طاعتها لكلمة الله التي فيها الأمان، بل وأساس كل عظمة أدبية حقيقية.
ثالثًا: سفن التاجر تُجلب البضائع الثمينة من بلاد بعيدة، والمرأة الفاضلة تنقل بركات السماء للنفوس من حوله «هِيَ كَسُفُنِ التَّاجِرِ. تَجْلِبُ طَعَامَهَا مِنْ بَعِيدٍ»
(أم31: 14). إنها تستمد مؤونتها من ما هو أبعد من دائرة المنظور. إنها تستجلب لمن حولها معونات السماء. وهي لا تستمد غذاءها الروحي من الظروف المحيطة بها لأن العالم بالنسبة لها ليس إلا برية قاحلة، ولكنها تستمد حاجتها يومًا فيومًا من ذات محضر الله وذلك بالصلاة والتأمل في الكلمة، والاتكال الكلي على الرب. وعندما تمتليء النفس من محضر الرب فإنها لا بد وأن تفيض على الآخرين، في إنكار تام للذات. وهكذا فهي على استعداد تام لأن تقدم ما عندها إلى كل النفوس المحتاجة حولها.
وفي ليل الاحتياج والظروف الصعبة، وفي يوم الجوع والحرمان الروحي، والافتقار للكلمة، تقوم المرأة الفاضلة لتقدم الطعام الروحي المناسب لكل من حولها«تَقُومُ إِذِ اللَّيْلُ بَعْدُ وَتُعْطِي أَكْلاً لأَهْلِ بَيْتِهَا وَفَرِيضَةً لِفَتَيَاتِهَا» (أم31: 15). إنها مثل جدعون الذي قرر أن تتوافر عنده حنطة لكي يكون مصدر شبع لإخوته حتى في أيام تسلط الأعداء (قض6).

رابعًا: سفن التاجر تتحمل عواصف البحر العنيفة، والمرأة الفاضلة تحصل على الحماية الإلهية لمن حولها، عندما تأتي الريح بالموج العنيف، وتهدد العواصف الأدبية والأخلاقية سلامتهم.

وهناك ظرفان يمران على بيتها، وهما "الليل" (ع15، 18) و "الشتاء (الثلج)" (ع21). "الليل" يُعبِّر عن ظروف محزنة ومظلمة، قاتمة وصعبة. و"الشتاء (الثلج)" يُعبِّر عن ظروف برودة العواطف، وفتور المحبة. ولكن في وسط كل هذه الظروف الصعبة، لا تخشى على بيتها لأن كل من حولها قد اكتسوا من تعب يديها وغزلها، لأنها «لاَ تَخْشَى عَلَى بَيْتِهَا مِنَ الثَّلْجِ لأَنَّ كُلَّ أَهْلِ بَيْتِهَا لاَبِسُونَ حُلَلاً (حُلّلاً قرمزية – ترجمة داربي)» (ع21)، وهي أيضًا«تَطْلُبُ صُوفاً وَكَتَّاناً وَتَشْتَغِلُ بِيَدَيْنِ رَاضِيَتَيْنِ» (ع13).

«تَطْلُبُ»
... ممن تطلب؟ إنها تطلب من ذاك الكريم المجيد الذي قال: «اطْلُبُوا تَجِدُوا» (مت7: 7).
«صُوفاً وَكَتَّاناً»
... "الصوف" هو الذي يلبسه الإنسان في أيام الشتاء الباردة طلبًا للدفء. و"الكتان" هو الذي يُلبَس في أيام الصيف الساخنة، طلبًا لامتصاص العرق، والتخفيف من سخونة الجو.
والمرأة الفاضلة تُسرّ بأن تُقدّم لبيتها دفء العواطف الرقيقة الحانية في برودة الشتاء (الصوف)، وتقدم لهم أيضًا إنعاش وتعزية مواعيد الله الصادقة في أيام التجارب الساخنة (الكتان).
ولأن «لِبْسُهَا بُوصٌ وَأُرْجُوانٌ» (ع22)، ولأن «اَلْعِزُّ وَالْبَهَاءُ لِبَاسُهَا» فهي «تَضْحَكُ عَلَى الزَّمَنِ الآتِي» (ع25). "البوص أو الكتان" يُشير إلى البر العملي والسلوك المرضي أمام الله والناس، و"الأرجوان" يُشير إلى المجد الأدبي الملكي أمام الله والناس. و"العز والبهاء" أي القوة والكرامة التي لها من الله، فلا عجب إذ قيل عنها أنها «تَضْحَكُ عَلَى الزَّمَنِ الآتِي»؛ أي أنها لا تخشى المستقبل، بل تنظر إليه باطمئنان وابتهاج. فحيث يجد الضمير راحته، فإن القلب يترنم فرحًا. ولذلك فهي «تَفْتَحُ فَمَهَا بِالْحِكْمَةِ وَفِي لِسَانِهَا سُنَّةُ الْمَعْرُوفِ (شريعة اللطف على لسانها)» (ع26). لقد رأيناها تعمل دون أن تتكلَّّم، وهنا نجد أنها تعرف متى وكيف تتكلم، وعندما تفتح فمها، فإنها تتكلَّم كلمات الحكمة (أف4: 5)، وهي لا تتعامل بالناموس، ولكن تنطق بكلمات النعمة التي توافق صفاتها الفائضة بالنعمة (كو4: 5, 6).

خامسًا: سفن التاجر لا تحتفظ بشيء لنفسها، فما تحمله هو للآخرين، وعند الوصول للجهة المقصودة تُفرغ كل ما تحمله لفائدة الآخرين. والمرأة الفاضلة تنفق حياتها لإثراء حياة الآخرين، ولا تفشل أبدًا في تقديم أفضل ماعندها لمن حولها.
إنها تعرف أن الحياة الشاهدة الحقيقية ليست شيئًا هينًا، بل هي أمر مُكلف؛ إنها تعني الحب، والحب العميق، الحب الذي يُسرّ بالبذل والتضحية، ويبتهج بالإيثار والعطاء. لذلك هي تعطي الجهد والتعب، والمال والقوة لأجل الآخرين. والمحبة عندها أكثر من مجرد شعور أو عاطفة؛ إنها مبدأ يحرك اليد، ويفتح الجيب والبيت لأجل جميع من حولها. وكما ذكرنا في مقدمة المقالة أن المرأة الفاضلة لا تكتفي فقط بتنفيذ ما عليها من واجبات نحو زوجها وأولادها، بل إنها أيضًا تعمل باجتهاد ونشاط من أجل الذين هم من خارج أيضًا. إنها تعتبر نفسها مسئولة عن: زوجها (ع11)، وأولادها (ع28)، وأهل بيتها أي ذويها وأقاربها (ع15)، وفتياتها أي الذين يخدمونها (ع15)، والفقراء والمساكين من شعبها (ع20)، والخطاة من حولها (ع16- فالحقل هو العالم)، والشهادة لإلهها (ع18).
إن "أهل البيت" هم أول دائرة يجب التحرك فيها ، أما فتياتها فتحمل معنى من يخدمونها، ولكن هناك دائرة أوسع لخدمة المرأة الفاضلة، وهي "الحقل" «تَتَأَمَّلُ حَقْلاً فَتَأْخُذُهُ وَبِثَمَرِ يَدَيْهَا تَغْرِسُ كَرْماً» (ع16)، «وَﭐلْحَقْلُ هُوَ الْعَالَمُ» (مت13: 38). فإن كان أهل بيتها، وفتياتها يحتاجون إلى طعامها الذي جلبته من بعيد، فإن هناك نفوس تحتاج إلى من يتأملها، ويقترب منها، ويتكلم إليها بكلام الحياة الأبدية؛ وهذه هي خدمة البشارة للنفوس البعيدة. وهكذا تستطيع المرأة الفاضلة أن تغرس كرمًا في الحقل بثمر يديها. فالكرم يتكلم عن الشهادة لنعمة الله (1كو9: 7).
وفي ع20 نراها وهي «تَبْسُطُ كَفَّيْهَا لِلْفَقِيرِ وَتَمُدُّ يَدَيْهَا إِلَى الْمِسْكِينِ». وهنا نرى العطاء المادي للفقير، والعطاء الروحي في العمل الفردي للمسكين. إنها تمد يدها بالمعونة المادية والمعنوية لكل محتاج وفقير، ولكل عاثر وبائس.
وكم يبدو مدهشًا أن هذه المرأة الفاضلة التي لها روح العمل الجاد، يكون عندها – بعد أن تهتم بكل أفراد بيتها، وبكل من يخدمونها
، وبالفقير والمسكين من شعبها، وبالخطاة من حولها، بعد كل هذا يكون عندها وقت وجهد لأن «تَصْنَعُ قُمْصَاناً وَتَبِيعُهَا وَتَعْرِضُ مَنَاطِقَ عَلَى الْكَنْعَانِيِّ» (ع24). يالها من نموذج يُحتذى! إن لديها فائض لبركة الآخرين. وهناك من يخدمون على مستوى العالم في كل الدول، وإن من يُصلي من أجل خدمتهم، ويُعضدهم ماديًا ومعنويًا وروحيًا، فهو كمن يصنع قمصانًا بتعب يديه، ويُعطيها لهم ليبيعوها، ويعرضوها هناك في البلاد البعيدة. ألا يعلمنا هذا أن لا نهتم بعمل الرب في القريبين منا فقط، بل يمتد هذا العمل في إرساليات لجهات بعيدة عنا أيضًا؟ ياليت لنا روح سَيِّدنا الذي اتجهت نعمته إلى جميع الناس!
سادسًا: سفن التاجر تتجه نحو الميناء لتفريغ حمولتها، والمرأة الفاضلة تحمل كل من حولها – وبصفة خاصة أولادها – إلى ميناء السلامة والأمان في الرب يسوع المسيح «لأَنَّ كُلَّ أَهْلِ بَيْتِهَا لاَبِسُونَ حُلَلاً
(حُلّلاً قرمزية – ترجمة داربي)» (أم31: 21). و"القرمز" يُشير إلى الرداء الذي صار لنا بالفداء الذي بيسوع المسيح (قارن من فضلك يشوع2: 18, 21؛ إشعياء1: 18).
والمرأة الفاضلة تدرك أن واجبها المقدس هو أن تربي أولادها، منذ طفوليتهم، في مخافة الرب وإنذاره (أف6: 4)؛ تربيهم التربية المطابقة تمامًا لكلمته المقدسة، ولا تسمح لهم أن يشبوا على الجهل والتهاون، والعناد والتمرد، بل أن يشبوا في مخافة الرب، وأن يُروَّضوا في سُبل البر والانفصال عن العالم، ولذلك فالمرأة الفاضلة لا تُعطي لعينيها نومًا ولا لأجفانها نعاسًا، حتى تجد أولادها آمنين سالمين، متمتعين بالسلام الحقيقي وبحماية دم المسيح.
والمرأة الفاضلة «تُرَاقِبُ (تراقب حسنًأ) طُرُقَ أَهْلِ بَيْتِهَا وَلاَ تَأْكُلُ خُبْزَ الْكَسَلِ»(ع27). هي أولاً مسئولة أن تُعطي أكلاً لأهل بيتها (ع15)، وهي تصنع لأهل بيتها حُلّلاً قرمزية (ع21)، ثم عليها أن تراقب حسنًا طرق أهل بيتها (ع27). فتلاحظ باهتمام عادات أولادها وتصرفاتهم، كما تلاحظ أحاديثهم، وبروح الوداعة، وبغير نكد أو تهيج، تمارس تأديب المحبة الحازم على كل واحد منهم؛ فتردع من يستحق الردع، وتشجع من هو جدير بالتشجيع. وهي «لاَ تَأْكُلُ خُبْزَ الْكَسَلِ»، ولكن بالقدوة تقود أولادها في طريق السلام.
وعلى مر السنين، وإذ يتحقق أولادها ما لم يتحققوه في حداثتهم وشبابهم، من الحكمة والمحبة اللتين أظهرتهما أمهم في تأديبهم الحازم اللطيف، فإنهم يقومون ويغدقون عليها الثناء، وينسبون ما هم عليه من هناء وسعادة ورخاء إلى تدريبها وتأديبها التقوي «يَقُومُ أَوْلاَدُهَا وَيُطَوِّبُونَهَا» (ع28)، بينما زوجها المبتهج بها، وهي التي شاركته أفراحه وأحزانه، يُعلن في مديح مُخلص قائلاً:«بَنَاتٌ كَثِيرَاتٌ عَمِلْنَ فَضْلاً أَمَّا أَنْتِ فَفُقْتِ عَلَيْهِنَّ جَمِيعاً» (ع29)، فقد وجد فيها ما يرنو إليه القلب؛ وجد له شريكة، لها من محاسن النفس والقلب والذهن، ما يفوق ويسمو على محاسن الوجه والصورة «اَلْحُسْنُ غِشٌّ وَالْجَمَالُ بَاطِلٌ أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَّقِيَةُ الرَّبَّ فَهِيَ تُمْدَحُ» (ع30).

سابعًا: سفن التاجر مجهزة للرحلات الطويلة، والمرأة الفاضلة تحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامها، ولا تخبو شهادتها، ولا ينطفىء سراجها طوال ليل عبورها هذا العالم
(ع18)، وتظل تسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع (عب12: 1, 2؛ في4: 13, 14). إنها تظل تسلك في تمام الاتكال على الرب، وفي الخضوع لكلمته، بقلب خاضع متعبد للرب، في إنكار للذات وتكريس مستمر، لا تكلّ ولا تخور، مهما يكون طريقها وسط ظروف سارة أو محزنة، وسط فرح أو ألم، والمستقبل لا يُخيفها على الإطلاق، بل إنها «تَضْحَكُ عَلَى الزَّمَنِ الآتِي» (ع25).
إنها تتقدم في ذلك الروح الوديع الهادىء، روح الانتظار المستمر لإرشاد الرب، لا تدفعها الظروف المواتية إلى التعالي أو التكاسل، ولا الظروف المضادة إلى تثبيط الهمة والتذمر والإنطراح، بل في قوة وفرح الروح القدس، تتغلب على كل المصاعب والعوائق من أجل السرور الموضوع أمامها، أن تقف أمام "سَيِّدِها"، لتسمع منه كلمات المديح «أَعْطُوهَا مِنْ ثَمَرِ يَدَيْهَا وَلْتَمْدَحْهَا أَعْمَالُهَا فِي الأَبْوَابِ»(ع31).
إن المرأة الفاضلة تعيش في ضوء تلك اللحظة المقدسة، التي تقف فيها أمام كرسي المسيح، والتي تُفحص فيها أعمالها، ويراها ذاك الذي استحق أعمق عواطفها، فبعزم قلبها وأشواق نفسها، تعلَّقت به، وحفظت كلمته، ولم تنكر اسمه، وانتظرت رجوعه. له كل المجد!

تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ

تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ
«تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ في مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ، كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ في مَحَلَّهَا (أَوَانِهَا)» (أم 25: 11)
يا لروعة ويا لجمال الصورة التي يرسمها أمامنا الروح القدس في أمثال 25: 11، حيث يُشَبِّه الحكيم الكلمة التي تُقال في أَوَانِهَا وفي مَحَلَّهَا بالتفاح الشهي الجميل، الأصفر كالذهب، المُقدَّم على طبقٍ من فِضَّةٍ! وهذه الصورة لا تجد إتمامها واكتمالها إلا في شخص الرب يسوع المسيح، ذاك المجيد الفريد الذي هو موضوع الكتاب المقدس كله.
فالرب يسوع المسيح هو الكَلِمَة المتجسد..
وهو الكَلِمَة التي قيلت في أَوَانِها..
وهو مِثْلُ تُفَّاحٌ شَهي..
وهو مِثْلُ تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ..
وهو مِثْلُ تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ مُقَدَّمٌ في مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ..
1
- الكلمة المتجسد:
الكلمة
أحد الأسماء الرائعة لربنا المعبود، والتي تُظهر لاهوته، ويرد أربع مرات في الوحي المقدس، كلها في الأصحاح الأول من إنجيل يوحنا (يو1: 1، 14).
و«الكلمة» هو الأقنوم المُعبِّر عن الله وعن فكر الله، ولا يمكن أن نعرف الله إلا بواسطته؛
فقد عبَّر في الخليقة عن حكمة الله وقوته ومجده

وعبَّر في الفداء عن محبة الله وبره 
وسيُعبَّر في الدينونة عن قداسة الله وعدله وغضبه.
ويا لجمال وإبداع إنجيل يوحنا، إنجيل الكلمة المتجسد، الذي يُفتتح باسم المسيح باعتباره الكلمة «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّه
َ.... وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يو1: 1، 14).
إن الرب يسوع المسيح هو الله، كما أن الآب هو الله، والروح القدس هو الله، ولكن لا يُقال عن الآب إنه الكلمة ولا عن الروح القدس. فيسوع المسيح ابن الله، هو وحده الكلمة. إن أقنومي الآب والروح القدس قد بقيا في جلالهما غير المنظور، أما الكلمة فقد أعلن الله إعلانًا كاملاً.
وليس معنى ذلك أنه صار «الكلمة» عندما أتى إلى هذا العالم فقط، ولكن « فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ». ففي الوقت الذي لم تكن فيه خليقة، وقبل أن يتكوَّن شيء مما هو كائن « كَانَ الْكَلِمَةُ»؛ هذا هو
وجوده الأزلي«وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ (أي معه)» فالكلمة كان له وجوده الشخصي وشخصيته المتميزة قبل وجود أي كائن أو مخلوق. « وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ»، فهو الله في جوهر لاهوته الشخصي. «هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ» فهو وحده كان عند الله في رفقة متميزة مع الآب والروح القدس.
«وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا»... وإنها لَحقيقة رائعة تلك التي يعلنها لنا الوحي في هذه العبارة القصيرة! فالذي كان قبل أن يكون زمان، الذي بأمره دارت عجلة الزمن، الذي جعل الكون ينبض بالحياة، الأزلي في جوهر ذاته وفي جوهر لاهوته وفى علاقاته الأقنومية، الذي هو بهاء مجد الله ورسم جوهره، الكلمة الأزلي الأبدي؛ «صَارَ جَسَدًا». لقد اتخذ «الكلمة» الجسد مسكنًا له «وَحَلَّ بَيْنَنَا» مشتركًا معنا في اللحم والدم، حتى يستطيع أن يقترب إلينا دون أن يُرعبنا (أي13: 20،21؛ 33: 6)، وهذا ما يملأ نفوسنا بالإعجاب والتعبد.
وتبارك اسم إلهنا الذي «صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا ... مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» لأن«النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ ... َبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا» (يو 1: 14، 17).
إن «الحق» بنوره الكشاف يكشف للإنسان ماهيته ومصيره، ويظهرهما واضحين. و«النعمة» تقف شاهدة له بأنه، رغم كل الشر الذي عاشه، وعلى حساب استحقاقات شخص آخر – الرب يسوع المسيح – يمكن أن تكون البركة الأبدية من نصيبه.
«الحق»
يُشخِّص الداء، و«النعمة» تُقدِّم الدواء.
«الحق»
يُظهر حقيقة الإنسان، و«النعمة» تُعالج تلك الحالة التي أظهرها الحق.
«الحق»
يضع الخاطئ في مركزه الصحيح، و«النعمة» تأتي بالله إليه.
و«الحق» الذي يُبين ويُقرر مطاليب الله،
يزداد بهاءً ولمعانًا لارتباطه بالنعمة.
و«النعمة» التي تسدد إعواز الخاطئ
يزيدها جمالاً أنها مرتكزة على الحق.
فيا لبهاء مجد ربنا يسوع المسيح الشخصي!!
ويا لبهاء مجد خدمته وعمله!!
2
- الكلمة التي قيلت في أوَانِهَا:
لقد صار «الكلمة» جسدًا، فكانت الحادثة في ذاتها
ترجمة“ لغة السماء إلى لغة الأرض. لقد أخذ الله الكلمة جسدًا إنسانيًا ليُعلن لنا الله، وجاء ابن الله لكي يُخبر عن الآب «اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو 1: 18).
«اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ».. هذا معناه بكل بساطة أنه الوحيد الذي له فكر الآب، الوحيد الذي يستطيع أن يتكلم بما رأى ويشهد بم يعرف (يو3: 11) لأنه «لاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (مت11: 27؛ لو10: 22).
ويا لروعة استهلال رسالة العبرانيين «اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ» (عب1: 1،2).
لقد تكلَّم الله قديمًا «بالأنبياء» -أي بواسطتهم- وتكلَّم «بطُرُق كثيرةٍ»: بالأحلام، بالرؤى، بالرموز، بالشرائع، بالفرائض، بالذبائح،... إلخ. وتكلَّم «بأنواع كثيرة» أي ”بأجزاء كثيرة“، فقد كان يستحيل إعطاء إعلان كلي وكامل قبل مجيء ذاك الذي فيه تتبلور كل الإعلانات، والذي فيه يتجسد كل ما هو الله.
أما الآن «في هذه الأيام الأخيرة» أي ”في آخر أيام الأنبياء“، فقد كلَّمنا الله «في ابنه». ليس ”به“ بل «فيه»؛ أي في شخصه الكريم بكل كيانه: قولاً وفعلاً وحياة. لقد انتهى وقت الإعلانات الجزئية الناقصة الوقتية، وصار الله يكلمنا بطريقة

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة