الأحد، 21 أكتوبر 2012

خلق الانسان بين نظريه التطور و الكتاب المقدس


أولا: مفاهيم أساسية:
الكتاب المقدس هو كتاب دين، أي أن الهدف منه ليس هدفاً علمياً ولا فلسفياً ولا تاريخياً. لذلك فهو لا يحاول أن يشبع فضولنا في شرح الحقائق العلمية وفي كشف الأسرار المخفية. والمقصود بأنه كتاب دين هو أنه كُتب لكي يحدّثنا عن العلاقة بين الإنسان والله، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان والكون…، وعن مصير الإنسان النهائي، فهدفه هو "لماذا" خُلقت الأشياء والإنسان والكون. أمّا العِلم فهو يبحث عن "كيف" خُلقت وكيف تكوّنت الأشياء والإنسان والكون، ومن ثَمَّ فلكل منهما مجاله الخاص فالعلم لا يستطيع أن يدعي وجود أو عدم وجود الله، لأن الله خارج مجاله، وكذلك الدين لا يستطيع أن يدعي بأننا لسنا في حاجة إلى العلم، لأن الإنسان في حاجة دائمة إلى معرفة: لماذا؟ وكيف؟، وإلا أضحت معرفته عرجاء ناقصة.
3.   إن التفسير الحرفي للكتاب المقدس يتنافى مع روح الكتاب المقدس، ويحرمنا من الفهم العميق له، والكتاب ذاته يقول: "الذي جعلنا كفاة لأن نكون خدّام عهد جديد لا الحرف بل الروح، لان الحرف يقتل ولكن الروح يحيي" (2كو3 :6). ولم يكن المسيح قاسياً ومُعَنْفاً بقدر ما كان مع الكتبة والفريسين الذين فسروا الكتاب تفسيراً حرفياً، فبدلاً من أن يعلنوا الرحمة والحق أعلنوا العقاب والدينونة… ونحن، أبناء كنيسة الإسكندرية، يجب ألاَّ ننسى أن كنيسة الإسكندرية هي تلك الكنيسة الَّتي تميزت بالتفسير الرمزي للكتاب المقدس (حتى ولو تغير ذلك الآن)، وكان في ذلك سر تفوقها المدهش في الكتاب المقدس.
4.   قصة الخلق الَّتي نحن بصددها، هي قصة أراد الكاتب المقدس أن يؤكد من خلالها ما لا يمكن لإنسان أن يصل إليها بنفسه، أي ما لم يعضده ويرشده روح الله (الوحي والإلهام)، هذه الحقائق هي:
× إن الله هو الخالق، وذلك إعلان جديدة كلّ الجدّة، لم يكتشفه أحد قبل الديانة اليهوديّة.
× إن كلّ المخلوقات خرجت من الله وخُلقت به وخُلقت له.
× إن الإنسان هو قمة المخلوقات وسيدها، لأنه مميز عن سائر المخلوقات بالعقل والحرية.
× إن الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله أي أن به شيئاً وطوقا وشوقا نحو ما هو الهي، وبعبارة أخرى أن راحة الإنسان العظمى (الفردوس) يكمن في قربه من مصدره، وفي علاقته بالله، "خلقتنا يا الله وقلوبنا قلقة ولن تستريح إلَّا فيكَ".
  ×  إن الشر دخيل على الطبيعة الإنسانية، وهو نتيجة للحرية الَّتي وهبها الله للإنسان، والتي أساء الإنسان استخدامها.
  ×  إن الإنسان لا يستطيع أن يحيا وحيداً، فالرجل والمرأة متساويين لا يستطيع أحدهما الاستغناء عن الآخر.
 ×  إن الخطيئة هي انفصال بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبينه وبين الطبيعة، وبينه وبين خالقه، أي أن الخطيئة هي الانشقاق الأعظم والشقاء الأعظم.
وخلاصة القول أن الكاتب المقدس صاغ كلّ هذه الحقائق في شكل وأسلوب أدبي يُطلق عليه أسلوب القصة، تماما كأسلوب المسيح عندما كان يريد أن يوصل حقائق معينة فيستعين بالأمثال (مثل الكرامين القتلة، الزارع…)، وما يؤكد ذلك هو:
  ×  إن لا أحد عاصر أحداث الخلق ليكتب عنها.
 ×  إن هناك قصتين للخلق الأول في الإصحاح الأول (الله يخلق بالكلمة، كن فيكون) والثانية في الثاني (الله يخلق بذاته، أي يتدخل بيديه وفمه…).
ثانياً: نظرية التطوّر كما يقدمها العلم الحديث:
إن العلم الحديث يؤكد أن "كلّ الكون" قد مرَّ بمراحل تطور، بدأت هذه المراحل منذ قرابة 15 مليار سنة، وكانت كالآتي:
قبل 15 مليار سنة كان الكون عبارة عن ذرات خفيّة من الهيدروجين والهليوم. أخذت هذه الذرات في التعقد إلى أن برزت ذرات أثقل من الأولى[1][1]، ثم تجمعت هذه الذرات الأثقل لتكوّن الجزيئات، وكان السير من الذرات الأثقل إلى الجزيئات هو سير نحو التعقد والتكثيف. وكما جمعت الذرة حولها الإلكترونيات جمعت الجزئية حولها الذرات، لتشملها في بنية جديدة.
ثم منذ 3 مليارات سنة بدأت تظهر بُنيات تفوق الجزيئات من حيث الكثافة، سميت بالجزيئات الكبرى Mocromolécules ، هذه الجزئيات الكبرى جمعت حولها الجزيئات الصغرى والذرات بصورة أكثر تعقيداً وكثافة ونظاماً. وكان ظهور الجزيئات الكبرى هو تمهيد للقفزة الكبرى الَّتي تمت منذ 2 مليار سنة وهي بروز الخلية الحية الأولى. والخلية الحيّة هي طفرة نوعيّة وليس كميّة، لأنها شيء معقد غاية التعقيد، فرغم حجمه الَّذي لا يري بالعين المجردة، تجمع داخلها تركيب متناسق من الذرات والجزيئات والبروتيدات والشحميات والسكريات والبروتينيات في وحدة متماسكة، وبعبارة أخرى الخلية عالم صغير من حيث الحجم هائل من حيث التعقيد === قفزة نوعيّة أو طفرة: من المادة إلى الحياة.
وأخذت الخلية الواحدة تتعقد وترتقي عبر زمان طويل إلى أن ظهرت كائنات أخرى متعددة الخلايا، وكما كانت الخليّة الواحدة تجمع عناصرها المختلفة والمتعددة في بنية واحدة منظمة ومركزة؛ هكذا جمعت الكائنات متعددة الخلايا خلاياها في وحدة منسجمة تعمل فيها كلّ العناصر لصالح بعضها البعض، ولصالح الكل.
وقد ازداد التعقيد عندما أخذت الخلايا في الكائن الواحد تتخصص فئات موحدة، لكل فئة وظيفة خاصة به. فتكوّنت الأجهزة (كالجهاز الدموي، والهضمي، والتنفسي…) وبقيت هذه الأجهزة رغم اختلافها وتميزها مرتبطة ارتباطاً متيناً أحدها بالأخر، عاملة معاً بانسجام بديع لصالح الكل.
ورويداً رويداً، بدأ يظهر الجهاز الَّذي يعمل على ربط كلّ هذه الأجهزة ببعضها البعض من ناحية، وبالعالم الخارجي من ناحية أخرى، فبرز الجهاز العصبي. وقد صار هذا الجهاز بدوره في مسيرة التعقيد والتكثيف والتركيز إلى أن بدأت تتكون وتنمو "الدماغ" (مركز الجهاز العصبي)، ومع تكوين الدماغ تزايد الارتباط بين الخلايا المختلفة في الجسد الواحد وبين كلّ الجسد والعالم الخارجي. ونتج عن نمو الجهاز العصبي استقلال متزايد، ووعي متزايد، وسيطرة متزايدة سواء في الجسد الواحد، أو بين الجسد والعالم الخارجي.
ومع تزايد الاستقلال والوعي والسيطرة بدأت تظهر الكائنات الحيوانية، الَّتي هي الأخرى مرت بمراحل تعقد وتكثيف إلى أن وصلت للإنسان قمة الخليقة وتاجها. وهو قمة الخليقة وتاجها لأنه الكائن الَّذي استطاع أن يعي الخليقة ويعرف ويميز بين كونه جزءً منها وبين كونه يتعداها، بين كونه خاضع للظروف وبين كونه متحكم فيها…
وخلاصة القول أن الكون كله مرّ بمراحل تطوّر بداية من الذرات الخفية للهيدروجين والهليوم، مروراً بالذرة ثم بالجزيء، ثم الجزيئات الكبرى، ثم الخلية الواحد، ثم الخلايا المتعددة ثم الجهاز العصبي، ثم الجهاز العصبي المعقد، ثم الحيوان، وأخيرا الإنسان (الَّذي هو أيضاً بدوره مرّ بمراحل تتطور). والسؤال الَّذي يطرح نفسه الآن: أين الله من كلّ ذلك؟ وكيف نفهم ما جاء في الكتاب المقدس على ضوء هذه النظرية العلمية؟…
ثالثاً: مقتضيات أو أسباب التطوّر
أمام تلك اللوحة الرائعة لتطوّر الكون ـ كما يُمكننا أن نتصوّره الآن على ضوء معطيات العلم الحديث، والتي قد تكشف لنا في المستقبل أشياء أخرى للآن لم نعرفها ـ ننتقل الآن من الوصف إلى التساؤل: ما هي أسباب ومقتضيات هذا التطور؟ أو كيف تمّ هذا التطوّر؟ فالعلم يصف لنا من خلال هذه النظرية خطاً تصاعدياً، ويظهر كيف أن المادة سلكت هذا الخط، ولكن العلم يقف عند حدود الوصف لهذا الارتقاء، ولا يبدي، ولا يستطيع أن يبدي، لماذا انتظمت هذه الحلقات في خط تصاعدي. وبعبارة أخرى: يعرض العلم كيفية التطور، تاركاً باب "أل لماذا" مفتوحاً على ذراعيه. والحقيقة أن هناك عدة نظريات حاولت الإجابة على التساؤل: لماذا الخط التصاعدي للتطوّر؟، نذكر منها:
1- نظرية الصدفة:
يدعي أصحاب هذه النظرية أن هذا التصاعد تمّ عن طريق الصدفة، بمعنى أن الصدفة هي الَّتي جمعت الذرات بالجزيئات، والجزيئات بغيرها… إلى أن ظهرت الخلية ثم الإنسان. إلَّا أن العلم ذاته أكد على استحالة هذه النظرية، لأن تحليل الكائنات ذات الخلية الواحد أوضح أن تلك الكائنات هي معقدة تعقيداً شديداً بحيث يستحيل أن يكون تجمعها تمّ عن طريق الصدفة البحتة.
فإذا كان ظهور خلية واحدة بداعي الصدفة أمراً مستحيلاً علمياً، فكيف نفسر ظهور مليارات من الخلايا؟ وكيف نفسر، بمجرد فعل الصدفة، تدرج الحياة المتواصل نحو أشكال أرقى وأرقي؟ وكيف ننسب لهذه الصدفة هذا الاستمرار والترتيب والدقة المتناهية، فقانون الصدفة هو عدم القانون، ونظامها هو عدم النظام؟!
وأخيراً، يتضح جلياً أن من ينادي بنظرية الصدفة لا يستطيع أن يبررها. لأنه كمنْ يدعي بأن الصدفة أوجدت أوّلاً أحرفاً، ثم بمجرد الصدفة اصطفت هذه الأحرف فكوّنت كلمة، وبمجرد الصدفة انجذبت هذه الكلمة لكلمة أخرى فكوّنت عبارة، وبمحض الصدفة تجمعت العبارات فكوّنت صفحات واصطفت الصفحات فكوّنت كتاباً، أو بحثاً علميّاً أو قصيدة شعرية… ولكن كمْ أن الإنسان أكثر تعقيداً وتناغماً من أي بحث علمي أو قصيدة أو كتاب؟. إننا نفترض بذلك أن الصدفة تسير بموجب خطة منسقة تتنافى مع طبيعتها. فالصدفة هي تحديد أعمى، غير مرتبط أو مترابط، يهدم ما قد كوّنه، كما تفصل هبة ريح بين ورقتين اتفق أن جمعتهما على الأرض هبة ريح سابقة.
2- نظرية "الناموس الطبيعي":
إن نظرية الصدفة لم تثبت أمام المعطيات العلميّة الَّتي كشفها العلم، وكان يجب الاستعاضة عنها بنظرية أخرى، فظهرت نظرية "الناموس الطبيعي"، هذه النظرية الَّتي تدعي أن طبيعة المادة كانت تحتم عليها أن تسلك الطريق التصاعدي الَّذي سلكته. أي أن المادة ذات طبيعة "ديالكتيكية" تتجاوز ذاتها باستمرار.
وهذه النظرية مغرية بادئ الأمر لأنه تؤكد أن التطور نبع من المادة دون تدخل خارجي مما يؤكد نظرية التطوّر. إلَّا أن السؤال ما زال مطروحاً: التطوّر يتمّ بفعل النواميس الطبيعية، ولكن كيف لهذه النواميس أن ترتب ذاتها بطريقة تصاعدية، أي كيف تعطي ذاتها النمط التصاعدي الَّذي نراه في التطوّر؟ وما هو سر ترتيبها تصاعدياً؟ وما الَّذي يفسر عقلانية مسيرتها نحو أشكال أرقى فأرقى؟ تلك العقلانية الَّتي تفترض فكراً!!! فما هو هذا الفكر؟ وهل هو فكر المادة؟ وهل نظمت المادة ذاتها لتسير عبر مليارات من السنين في خط تطوّري تصاعدي؟ ولكن أن تنظم المادة ذاتها "الناموس الذاتي"، يعني أن لها ذات، أي فكر، وفي ذلك تناقض مع طبيعة المادة كجماد، لا فكر له.
فلكي تنظم المادة ذاتها بهذا الشكل المذهل نكون قد نسبنا إليها فكراً يعلو على الفكر البشري، لأننا حتى الآن بكل ما نملك من تقدم لا تستطيع عمل خلية واحدة. وبعبارة أخرى نكون قد نسبنا إليها فكراً إلهياً. ومادة مؤلهة كهذه ليست هي المادة الَّتي يعرفها العلم ويسخرها لخدمة الإنسان… تأليه المادة هو نكوص إلى الفكر الوثني، ذلك الفكر الَّذي أله الكون والمخلوقات… لقد بدد الإعلان اليهودي والمسيحي هذه الأوهام، فمهد بذلك الطريق إلى العلم إذ فتح أمامه مجال الدراسة الموضوعية للكائنات المادية والسيطرة عليها بعد أن جردها من صفاتها الخارقة والإلهية الَّتي تنسبها إليها نظرية "الناموس الطبيعي"…
وخلاصة القول: إن ننسب للمادة مقدرة تنظيمية هائلة، مقدرة تجعلها تنطلق من الجماد (أي اللاحياة) إلى الخلية (أي الحياة)، من تلقاء ذاتها، هو تقهقر يضرب عرض الحائط بالعلم وبمكاسب الإعلان اليهودي والمسيحي… وهو عودة إلى الوثنية الَّتي وصفها أرميا بقوله: "يقولون للخشب أنت أبي وللحجر أنت ولدتني" (2/27). أما المؤمن فإنه لا ينسب للمادة فكراً منظماً، بل ينسبه إلى خالق تلك المادة، إلى الكائن الَّذي هو متعال كلية عن المادة، إلى الكائن الَّذي يمكنه وحده أن يرسم لتلك المادة الغاشمة ذلك الخط التصاعدي. هذا هو الإيمان، والذي بحسب مقتضيات العلم أكثر قبولاً من نظرية الصدفة أو الناموس الذاتي، لأن العلم ذاته يؤكد أن هناك فكراً يفوق المادة، هو الَّذي نظم المادة وقادها عبر ذلك الخط التصاعدي. إلَّا أن العلم لا يستطيع أن يقول أن هذا الفكر هو الله؛ لأن ذلك خارج عن مجاله وعن نطاقه…

رابعاً: نظرية التطور بين العلم والإيمان:
حين نقارن بين نظرية التطور وقصة الخلق، يساورنا الشك والتساؤل حول أهمية وجود إله خالق، مادامت الأحداث تتم بطريقة تلقائية، ذاتية، دون تدخل خارجي!!! لدرجة أن نظرية التطوّر هدمت وزلزلت إيمان كثيرين وقادتهم إلى إنكار وجود الله، غير أن التبصر والتعمق في هذه النظرية يقودنا إلى فهم أعمق لسر الله، ولسر الخلق. وقد جاء الوقت الَّذي يجب فيه أن نتطهر من مفاهيمنا الطفولية المشوهة عن الله وعن الخلق. وقبل التعرض لما توضحه نظرية التطور من عمق إيماني يجب أوّلاً التركيز على الآتي:
     ×    لا يستطيع العلم أن ينفي أو يثبت وجود الله. فموضوع الله لا يدخل أبداً، ولا يمكن أن يدخل، في اختصاص العلم، لأنه موضوع يفوق العلم.
     ×    لا يجوز أن نتوقع أن الله تدخل تدخلاً حسيّاً في عملية الخلق، بمعنى أن تصور الله كعامل يأخذ الطين ويعجنه… لأن ذلك إسقاط بشري على الله. فالله هو ما لا يمكن لعقلنا أن يتصوره، وهو ليس بإنسان أي ليس له يدين وفم… لأنه روح، وعملية الخلق هي إعجاز لأنها تبدأ من الجماد لتصل إلى الروح، ومن ثَمَّ هي عمليّة روحية.
     ×    وصف الكتاب المقدس لعملية الخلق هو وصف مجازي وليس حرفي، لأن الله لم يراه أحد قط، ولا يستطيع أحد أن يراه ويعيش…

1- معنى كلمة "خلق":
إن نظرية التطور تؤكد أن التطور تم عن طريق الكائنات ذاتها، ولم يأتي عن طريق شيء خارج عنها. بمعنى آخر، الخلق هو خلق ذاتي. وذلك لا يتنافى مع إيماننا بأن الله أراد أن يشرك المخلوقات في عملية الخلق، بمعنى أنه كان هو السبب الأول والمخلوقات هي السبب الثاني[1][2]. والآن سنتناول معنى كلمة خلق، انطلاقا من الكتاب المقدس:
أ ) الخلق هو إيجاد من العدم.
وهذا ما يميز الخلق عن الصنع، فكلمة خلق تعني أخرج من اللاوجود وجود، ومن العدم شيئاً (وكلمة عدم لا تعني أن هناك مادة اسمه "عدم" بل تعني اللاشيء واللاوجود).
ب) الخلق هو فعل حب:
الله لم يوجد شيئاً إلَّا لأنه أراده ("أنا صنعت الأرض وخلقت الإنسان عليها يداي أنا نشرتا السماوات وكل جندها لأني أنا أمرت" إش 45 : 12، فلا شيء موجود إلَّا لأنه أراده: "فان لك الأفعال الأولى وأنت قدرت بعضها في عقب بعض وما أردته كان" يهو9 : 4) ولأنه أراده يعني أنه أحبه. أنا موجود تعني أنا محبوب. فالخلق هو، بالنسبة لله، هو فعل حب. وبعبارة أخر، كلّ شيء مخلوق، هو شيء مرغوب، الله يرغب في هذا الشيء لأنه يحبه. فلا يمكن تفسير وجودنا إلَّا عن طريق ذلك الحب الإلهي.
   ×    مزمور104"ما اعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت ملآنة الأرض من غناك هذا البحر الكبير الواسع الأطراف هناك دبابات بلا عدد صغار حيوان مع كبار هناك تجري السفن لوياثان هذا خلقته ليلعب فيه كلها إياك تترجى لترزقها قوتها في حينه تعطيها فتلتقط تفتح يدك فتشبع خيرا تحجب وجهك فترتاع تنزع أرواحها فتموت وإلى ترابها تعود ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه العرض".
ج) الخلق هو فعل مستمر:
لا يعني الخلق إخراج شيئاً من العدم إلى الوجود فقط، بل يعني الاستمرار في هذا الإخراج. فالخلق لم يكن فعلاً قام به الله منذ ملايين السنين وانتهى، بل هو فعل مستمر له بداية وليس له نهاية، فأنا موجود الآن لأن الله لا زال يريدني ولا زال يخلقني، وبعبارة أدق لا زال يحبني، فالحب والخلق وجهان لعملة واحدة.

خامساً: دور الله في عملية الخلق، أو نظرية التطوّر:
هناك قاعدة أساسية تؤكد أنه ليس هناك شيء إلَّا وهناك من أوجده، (مثل اللوحة… مثل المصنع الَّذي يعمل الآن وحده، ولكننا نستنتج أن لم يكن كذلك قديماً…).
 قد يظهر من عملية الخلق أو التطور أن الله غائب وغير موجود، وأن الأحداث تمشي بطريقة آلية… وهنا تظهر عظمة الخالق الإلهي، الَّذي أراد أن يبدع هذا الخلق البديع، دون أن يظهر… فالله هو كالمهندس الَّذي صمم المصنع الآلي، قد لا يظهر لمن لا يعرفه، إلَّا أن المصنع يعمل بحسب الخطة الَّتي وضعها هو له… وهو كالمخرج القدير الَّذي أخرج فلماً رائعاً، نحن نشاهده ولا نرى أحد ينفذه. والمتفرج الجاهل هو ذاك الَّذي لا يرى أهمية للمخرج مادام لا يظهر خلال أحداث الفيلم ظهوراً ملموساً.
موقف الكنيسة من موضوع نظرية التطور والمصمم العاقل
باختصار وصريح العبارة ان الكنيسة الكاثوليكية لا تعترف بالصيغة التي تفسر وجود الحياة والنظام والوعي ودرجة التطور الذي وصلها الإنسان عن طريق الصدفة، لا باس بان بعض آباء اللاهوتيين يقبلون بجزء من نظرية التطور ولكنهم في نفس الوقت يؤمنون بان كل شيء حدث في هذه الكون بإرادة الله وحسب تخطيطه. حتى وان كانت الحياة قد تطورت من خلية الواحدة. لا باس في صيغة المصمم العاقل بأنها تشير إلى وجود قوة خارج هذا العالم (الزمن والفضاء).
آراء البابا بندكتوس السادس عشر في نظرية التطور
يبدأ البابا بندكتوس محاضرته في جامعة السوربون عام 1999 وأجزاء منها موجودة في كتابه ( Truth and Tolerance) بتاريخ المعرفة الإنسانية ودور مفكري الكنيسة في عملية الفصل بين  الفكر الروحي والميتافيزيقي والفكر المبني على علوم الطبيعية).
ينتقد بشدة أصحاب الرأي المبني على علوم الطبيعة والذين اتخذوا من فكرة نظرية التطور كأساس لزعمهم  عن كشف  كل الحقيقة وكأنها نتائج مسلمة لا تقبل الجدال، دون إعطاء مجال أمام آراء بقية علوم أو الدخول في مناقشة أفكارهم وآرائهم.
من الأفضل أن تبقى الفكرة المسيحية عن الله غير علمية، يقول البابا لم يعد هناك اعتراف بوجود الله كما هو موجود في المسيحية.
لا يمكن أن نتجاهل موضوع الجدال بين المعسكرين المعارضين والمؤيدين لهذه النظرية، و لا يمكن أن نسلم بنظرية التطور كمبدأ فلسفي أو فكري كأساس لتفسير وجود الحياة. ولا يمكن إهمال فكرة  The positive Method التي هي الأكثر قبولا والتي هي وحدها تشير  إلى نظام المعرفة والعقلانية إذن النقاش هنا يجب أن يجري بالموضوعية والأرادة الحسنة للبحث عن الحقيقة.
لا يمكن لأحد أن يتغاضى عن الشك في صحة نظرية التطور، ويسأل عن براهين علمية عن كيفية تطور الخلايا الأولية Micro-evolutionary process  إلى مظاهر الحياة في الوقت الحاضر.
كيف انتقلت أو تحولت الحياة من خلايا صغيرة حجمها 1/1000000 إلى حيوان ضخم مثل الفيل أو الإنسان ذو عقل متطور؟؟؟
وهل من المعقول أن يؤدي فعل لاعقلاني إلى إنتاج موضوع ما يحتاج إلى وجود فعل عقلاني أو فكري؟؟!!
هذا الموضوع لم يعد يقبل الجدال لانه خارج المنطق؟
وبالتالي ففكرة المسيحية عن الله صحيحة: كل شيء يعود إلى القوة الخالقة العاقلة... وحتى الفلسفة تجد نفسها محدودة الإمكانية كي تصل هذه النتيجة أحيانا ... إذن لم تعد العلوم الطبيعية وحدها من يحدد النتيجة لأنه لا يمكن  للفكر ان يقدم اللاعقلانية على العقلانية ...
ان فكر العقلاني ليس تماما كفكر الذي يجري في عمليات الرياضيات قثط  وانما حب خالق و عطف علينا وقبوله الالام من اجلنا هو الأمر الذي يجب نبحثه. إن الفكر الديني للكون، الذي يبجل ويستنير قوة الخالق وموضوع وجوده وموضوع سر الفداء يندمجون معا ليصبح موضوع واحد. فلا يحتاج إلا لبرهان واحد.
أي نظرية أو اي فكر يعجز عن توضيح معنى وجود الاخلاق في المجتمع الإنساني يكون باطل . في الحقيقة ان نظرية التطور عاجزة لحد الان عن ايجاد معنى لوجود الاخلاق  والضمير والعاطفة لدى الإنسان...
الخلاصة
وبهذا الشرح يتضح لنا أن نظرية التطور ليست هدماً للإيمان الحقيقي، بل هدماً لتصورات خاطئة عن الله وعن الخلق. ليست برهاناً ضد التسامي الإلهي، بل تأكيداً لذلك التسامي، تأكيداً على كون الله هو ذاك المتعالي كلياً والموجود جذرياً، ذاك المختفي تماماً والحاضر كلياً، ذاك الَّذي تعجز تصوراتنا عن وصفه لكون خارج الزمان والمكان، أي خارج حدود إدراكنا[1][3]. ولهذا يخاطب سفر الرؤيا، أخر أسفار الكتاب المقدس، الله قائلاً: "أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد و الكرامة و القدرة لأنك أنت خلقت كل الأشياء و هي بإرادتك كائنة و خلقت"(رؤ 4 : 11)
وهنا أود أن أختم بعبارتين الأولى من الكتاب المقدس والثانية لداروين:
1- إن جميع الذين لم يعرفوا الله هم حمقى من طبعهم لم يقدروا أن يعلموا الكائن من الخيرات المنظورة ولم يتأملوا المصنوعات حتى يعرفوا صانعها  (حك 13 : 1)
2- "إنني كلما ازددت بحثاً في ظواهر هذا الوجود أستطيع أن أؤكد استحالة أن يكون العالم ونفوسنا، قد ظهرت عن طريق الصدفة. وبهذا أستطيع أن أؤكد حتمية وجود الله" داروين.

الخلاص في الكتاب المقدس

لاص الله في مجرى التاريخ، وفي الأزمنة الأخيرة:
فكرة أن الله يخلص المؤمنين به مشتركة في كلّ الأديان. والعهد القديم يركز عليها فنجد كثير من الأشخاص يحملون اسم "الله يخلص" مثل: يشوع، وأشعيا، وإليشع، وهوشع... ويصبغ الاختبار التاريخي هذه الفكرة بلون خاص، لأنها مرت ككل المفاهيم الأساسية بمراحل تطور ونمو.
أ ) الاختبار التاريخي:
يظل دائماً حدث "الخروج"  هو الحدث الأهم الّذي اختبر فيه الشعب الخلاص من العبودية (خروج14)، و(مزمور106/8)، و(أشعيا 63/ 8-9). ولكن الله يُنقذ شعب إسرائيل من مواقف حرجة، عن طريق إرسال نبي أو قائد يقودهم للنصر، فيختبر الشعب من خلال النصر خلاص الله (مل18/ 30-35). فنجد الله يخلص بني يعقوب من خلال يوسف، وقبل ذلك يخلص نوح من الطوفان، (تكوين 7/23)  راجع أيضاً: شاول، وداود النبي، وجدعون، وشمشون، وإستير...  “توكلوا على الله فهو ينقذهم...” وبالتالي اختبر الشعب من خلال التاريخ "الله المخلص" الّذي لا يتركه أبداً.
ب) وعود أخر الأزمنة:
هناك ثقة من الشعب أن الله سيتدخل دائما عندما يمرون بأزمة، ولكن لأن الشعب مرّ في تاريخه بحروب كثيرة كان أقواها السبي البابلي بدأت فكرة الله الّذي سيرسل "المخلص" تظهر رويداً رويداً حتى أصبحت “رجاء كلّ الشعب”، وكأن الشعب كله أصبح في انتظار لهذا "المخلص"، راجع: (ميخا 7/7)، و( صفنيا3/15)، و(أشعيا33/ 22 ، 45/15،21)، و(باروك 45/22). ويظهر ذلك من خلال التنبؤات المتعلقة بالأيام الأخيرة، فتصف خلاص إسرائيل بطرق شتى وأساليب مختلفة مثل: العودة إلى الأرض (إرميا 31/7). وإرسال المسيا المنتظر (إرميا 23/ 6). وصورة الرعية والراعي الواحد (حزقيال 34/ 22). وإفاضة الروح على الشعب (حزقيال 36/ 29). كما توجد رسائل عزاء تتكلم عن الخلاص (أشعيا 43/ 4، 45/ 22).
ج) ثقة المصلي في الله المخلص:
يؤمن المصلي بأن الله مخلص من ليس له رجاء (يهوديت 9/11)، وذلك لأنه إله خلاص (مزمور 51/16 ، 79/9). ولذلك تقوم كلّ الصلاة على كلمة “يارب ارحم/ يارب خلّص” (مزمور 118). ولأن ثقة الشعب في الله ليست ثقة وهميّة بل مؤسسه على الاختبار التاريخي نجد أن بعض المزامير تتكلم عن الخلاص وكأنه شيء حدث ( مزمور 96/2)، بينما تعبر مزامير أخرى عن رجاء الأمم بفرح. وخلاصة القول إن الشعب الإسرائيلي مشى شيئاً فشيئاً نحو رجاء العهد الجديد.
ثانياً : الخلاص في العهد الجديد:
1- الخلاص عن اليهود أيام المسيح:
سيطرة فكرة المسيا المنتظر على الشعب بعد انقسام المملكة أي بعد موت سليمان، ولاسيما بعد الحروب والصراعات التي دخلها الشعب الإسرائيلي مع الأمم المجاورة، وبعد خبرة السبي المؤلمة، ولكن ظهر مع العودة من السبي ثلاث أحزاب في إسرائيل هم: الفريسيون، والغيوريون[1]، والصدقيون، والأثينيون[2].
2- يسوع المسيح مخلص البشر:
يظهر يسوع كالمخلص من خلال أعماله وتعاليمه التي تختلف عن أقوال وتعاليم بقيّة الأنبياء، لا سيما لأن يسوع لم يطلب الإيمان فقط ولكن الإيمان بشخصه. ورغم أن المسيح لم يطلق لقب المسيا على ذاته (لما يحوط باللقب من لبث سياسيّ) إلاّ أنه نادى “بالغفران” وبحب الله الشامل وغير المشروط للجميع ولا سيما للخطأة.
وللخلاص الّذي يقدمه المسيح وجهان الأوّل: “انتهاز الفرصة المقدمة” (لوقا13/3،5). والثاني: “الدخول من الباب الضيق” (لوقا 13/23). فالتجرد شرط أساسي للحصول على هذا الخلاص (متى 10/39) ، (لوقا9/14)، (يوحنا12/25). وقد قدم المسيح ذاته كتحقيق لهذا (عبرانيين5/17) ، (يوحنا12/17). وخلاصة القول أن من يحتفظ بحياته لا ينال الخلاص ولكن من ينهج نهج المسيح فيقدم حياته يخلص.
3- إنجيل الخلاص:
وعت الكنيسة منذ البداية أنها “جماعة خلاص”، وذلك انطلاقا من إيمانها بالمسيح القائم والممجد، بالمسيح "المخلص". ومن ثمَّ ربطت دائماً بين الخلاص والإيمان بالمسيح. واعتبرت أن الخلاص لم يعد بعد المسيح موضوع انتظار بل موضوع إيمان، يعاش في الواقع (1بطرس1/3).، (فليبي2/9)، وهذا ما شدد عليه القديس بطرس عندما تكلم في عظته عن أن لا خلاص بدون الإيمان بالمسيح الّذي تجسد ومات وقام من بين الأموات في اليوم الثالث، حيث “ليس بغيره خلاص” (أعمال4/12)، وحيث أن الله هو الّذي رفع المسيح وجعله رئيساً ومخلصاً (أعمال5/32).
وعندما أرسل المسيح رسله ليبشروا بإنجيل الخلاص نادوا قائلين: “آمنوا باسمه فتنالون الخلاص”. ولكن يجب أن نوضح أن الخلاص لا يُمكن أن يفرض بل يقدم مجانا وينتظر أن يقبل.
الخلاصة: على الكنيسة أن تتذكر دائماً أنها نالت الخلاص من المسيح، وأنه مهمتها ورسالتها تكمن في تقديم هذا الخلاص للآخرين، عن طريق التأكيد على أن المسيح هو المخلص، وهو الخلاص بذاته.
وخلاصة القول أن المسيح لم يكن فقط المخلص بل الكاشف الأعظم عن "سر الله"، هذا السر العظيم في المحبة والذي يظهر من خلال حب المسيح وتعاليمه وخلاصه من الخطيئة، وهنا يجب الإشارة إلى أن خلاص الله أشمل من الخطيئة، فالخطيئة حدث عرضي، أي أن الخطيئة ليست هي الدافع للخلاص بل المحبّة.
فالله الّذي خلق الإنسان خلقه لينعم بالتأله، ولكن التأله هو هبة تعطى وليس هبة تغتصب، حيث أن الإنسان غير قادر بذاته على أن يحقق ذاته أو غاية وجوده "التأله"، أي الاشتراك في حياة الله، ومن هنا ينشأ موضوع الصليب.
                   · لصليب المسيح علاقة بمشيئة الآب (عبرانيين10/7).
                   · لصليب المسيح قيمة ذبائحيّة
                   · لصليب المسيح علاقة بقيامته (فيلبي2).
فإرادة الله هي إدخال الإنسان في حياته، وكأن الإنسان مخلوق متجه نحو الله، وكماله متعلق لا محالة بأمانته لهذا الاتجاه. وبالتالي فالسبب التجسد هو "الحب" وليس "الخطيئة".
وهنا يجدر الإشارة إلى أن الفكر الوثني يعتبر أن اتجاه الإنسان إلى الله يهدف إلى إرضاء هذا الإله، أما المسيحي يتقدم نحو الله لأن الله لمسه (صاحب المبادرة)، ولأنه أحبه ولأنه يكتشف أن الله كماله مرتبط بجوابه الحر على هذا الحب المقدم والمجاني والذي ينتظر الجواب. (أفسس5/2،25)، (غلاطية2/20)، (2كورنثوس8/9)، (يوحنا13).
والصليب لا يفهم إلاّ إذا اقترن بالمحبة الكاملة، حيث أن الصليب ليس هدفاً في حد ذاته إنما هو وسيلة لإشراك الإنسان في حياة الله (2بطرس1/3).
والقديس بولس يؤكد أن المسيح هو آدم الجديد، وأن هدف الله من التجسد والفداء والصليب هو أن يصير الإنسان كلّ إنسان على شاكلة الابن، ومن ثمّ فالمسيح هو الوسيط الوحيد للخلاص، من حيث أنه الغاية الأخيرة لكل إنسان  "الله اختارنا في المسيح قبل إنشاء العالم"، أي "التطعيم" كما يقول القديس بولس.
إذن الخطيئة لا تفسر الفداء ولكن تجعل التجسد فدائياً.
تدبير الله هو تدبير حياة: حياة لا تفرض على الإنسان بل يختارها الإنسان حرّاً (تثنيّة30/19-20)، الحياة هي الهدف من التجسد (يوحنا10/10)، والحياة هي “البنوّة الإلهيّة”، أي الاشتراك في حياة الله ذاتها، وذلك كنعمة وهبة.
تدبير الله هو تدبير محبّة: الله أراد من البشر أن يغدو أبناء له بمحبّة فيّاضة، وكان تجسد الابن هو الوسيلة التي يتم من خلالها هذا الهدف “التبني”. (أفسس1/3-1، 5/30)، و(كولوسي1/18).
وبالتالي فالإنسان ليس مفعولاً به في عمليّة الخلاص بل فاعل مشترك مع الله، يشترك في حياة الله وأبوته وسيادته، من خلال عمله في التدبير الإلهي.

بعض النظريات الخاصة بالفداء والصليب

1- نظرية اورجينوس القرن 3:
يقول إن الشيطان كان مسيطراً على بعض السيطرة على الإنسان، بسبب الخطيئة التي قام بها آدم الإنسان الأول، أي أن الإنسان أصبح تحت سيطرة الشيطان بعد الخطيئة، صار ملكا للشيطان. ومن هنا نشأ الصراع بين الله والشر، فأراد الشيطان أن يمد سيطرته على المسيح أثناء الصليب، حيث ضعف المسيح، لكن المسيح هزمه “بالحيلة”.
ومن عيوب هذه النظرية:
 أ ) أنها تضع الشيطان مساوياً لله.
ب) تجعل من الإنسان لعبة في يد الصراع الإلهي الشيطاني.
ج) تجعل المسيح ينتصر بالحيلة.
2- نظرية التعويض لإنسلم:
                   ·مقدمة كبرى: الإنسان أخطأ تجاه الله
                   ·مقدمة صغرى: الله غير محدود وبالتالي الخطيئة تجاهه غير محدودة.
النتيجة: الإنسان محدود ولا يقدر على التعويض، فيظهر المسيح الإنسان الكامل والإله الكامل ليحل المشكلة فيقدم القصاص غير المحدود لله (فيرضي عدالته) ويحيا المحبّة تجاه البشر (فيرضى محبة الله).
ومن عيوب هذه النظرية:
 أ ) تقدم الله كقصاص لا يهمه سوى إرضاء عدله المجروح.
ب) تقدم الله بصورة من يقبل القصاص من شخص برئ، صورة عنيفة لا تتفق من الصورة التي يقدمها الوحي عن الله المحبة.
ج)ّ تقدم نوع من الازدواجيّة في الله، فعدله يريد القصاص ومحبّته تريد الغفران.
تأكيدات هامة حول الفداء والصليب:
       · يسوع لم يسعى للموت ولم يأتي إليه، وبالتالي فالله لم يرد موت المسيح على الصليب. فمشيئة الله هي أن يعلن المسيح بشرى الملكوت السارة، وكان الصليب هو النتيجة أو الثمن لهذه الرسالة.
       · لله مطلق الحرِّيَّة، غير ملتزم بأحداث التاريخ، وقد اختار الله بملء حريته “الخلاص”، بواسطة المسيح.
       · رسالة الأنبياء والرسل هي عيش الرسالة التي يحملونها إلى الآخرين أولاً. وقد أراد الله أن يكون لأفعال وأقوال المسيح قدرة خلاصيّة خاصة، والمسيح أثناء قيامه بهذه المهمّة اصطدم بأصحاب الضَّمير الفريسي ذلك الضَّمير الّذي لا يدخل ولا يدع الداخلين يدخلون، مما دفع هؤلاء الذين يملكون السلطة والسيطرة إلى السعي للتخلص من المسيح ذلك النور الّذي يفضح ظلامهم.
       ·لم يكن لدى المسيح أي عقدة استشهاد، ويظهر ذلك في صراع المسيح أثناء صلاته ورفضه الشديد للموت “إن أردت أن تعبر عني هذا الكأس”.
ماذا حقق لنا المسيح بصلبه؟
          1. التحرر من الخطيئة والموت: عاش المسيح حياة "البار"، وكانت تعاليمه دعوّة للناس إلى الحقيقة، ورفض الناس له لم يجعله يبتعد عن هذا الهدف ولم يثني عزيمته، بل جعله يتقدم بكل حرية ساعياً نحو الخلاص الشامل للجميع، وتوحي كلّ آلامه توحي ظاهرياً كأنه فشل وأخفق في رسالته.
  فيسوع يقبل كلّ ما ترفضه الحكمة البشرية وذلك لأن حبه كاملا ولأن الله وحده هو القادر على أن يحوّل الشّرّ إلى الخير ويستخرج من الكراهية المحبة والنعمة. والقيامة هي أكبر تأكيد لهذا، من حيث أنها عبور وانتصار على الخطيئة وعلى الموت وعلى قوى الشيطان. والمسيح أنتصر على الخطيئة من خلال اتحاده بالله، ومن خلال طاعته لله.
        2. التكفير عن الخطيئة: عواقب الخطيئة لا تبقى خارج حدود الإنسان الخاطئ، ومن هنا تنبع حاجة الإنسان إلى التطهير “اغسلني فأبيض أكثر من الثلج”، ويفهم المسيحيون موت المسيح كتكفير عن الخطيئة لأن المسيح كان بدون خطيئة. وهنا تجدر الإشارة بان الخطيئة هي خلل في النظام الخُلقي، وتشكيك في صلاح الله، ومن ثمّ فللخطيئة بعد جماعي يتخطى الفعل الفردي، ولأن المسيح عاش البرارة الكاملة والطاعة الكاملة لمشيئة الآب دشن طريق الإنسان الجديد المطهر من الخطيئة والقادر على إقامة علاقة بنوية مع الله.
      3. الحب المحوّل: حياة يسوع هي حياة "الحب" الكامل (يوحنا15/13)، الحب بطبيعة حاله هو يغير من يحياه، ومحبة المسيح، لأنها كاملة، ذي قدرة تغيرية. والمؤمن يختبر في شخص المسيح ذلك البار الّذي أطاع طاعة كاملة، وبالتالي يختبر أنه (الإنسان) كلما اقترب من الله اختبر البنوّة "أن يكون أبناً لله"، ويرى المسيحيون في المسيح هذا التحقيق الكامل لأنه أظهر الحب المجرد عن الذات، والمسيحي يكون أمينا لمسيحيته بقدر اقترابه من هذا النموذج.
لماذا مات المسيح؟
1- القراءة التاريخيّة:
مات المسيح لأنه تصدى بجرأة لا تعرف التخاذل للاستغلال الديني (الحُكم الديني التسلطي) المتمثل في شيوخ الكهنة واليهود. وكان أمام المسيح اختيارات منها:
                                ·   التسليم بالأمر الواقع؛ حفاظاً على سلامته.
                                ·   السعي إلى الاستيلاء على الحكم الديني.
                                ·   التصدي للظلم والزيف مهما كانت النتائج.
وقد اختار المسيح الاختيار الثالث متحملاً كلّ نتائجه مهما كانت، وذلك انطلاقاً من أمانته للآب السماوي، ومن أمانته لرسالته "الشهادة للحق"، ومن الجدير بالذكر أن المسيح فعل هذا بدون عنف وبدون حقد أو كراهيّة.
ولقد وعيّ المسيح بأن أمانته ستقوده حتماً إلى الموت على الصليب، ومن هنا نفهم كلامه عن موته وصلبه وقيامته. وقد كانت القيامة “النصرة” التامة لرسالته هذه.
2- القراءة الإيمانيّة:
المسيح بموته توج حياته، وأظهر حقيقة الله وحقيقة الإنسان، وأدخل الإنسان في علاقة محيّيّة ملؤها المحبّة مع خالقه، وهذا يتضح من:
+ قال البعض: إن الإنسان إله ساقط يتذكر السموات يحن إليها يرغب فيها، ولكنه مرتبط بالأرض ومنجذب أيضاً إليها. والواقع البشري (المأسوي) يؤكد على أن الإنسان كائن محدود الوجود غير محدود الرغبات، يحيا فيصرع دائم، وغالباً ما يصلان إلى التمرد تجاه الله، واعتباره منافساً وخصماً له، وأن حريته مرتبطة بترك هذا الإله. إلاّ كلّ هذا “التمرد” لا يلغي حنينه (الإنسان) إلى الله، فهو يكتشف، في نهاية الأمر، رغبته الملحة نحو الخالق نحو مصدره.
+ أنتهج المسيح نهجاً مغايراً للواقع الإنساني الساقط (فلبي2/4-11) “يسوع لم يعتبر مساواته لله غنيمة...”، وبالتالي كان منفتحاً تماماً على الله، ومتجرداً كليّاً عن ذاته. وكان موته تتويجاً لمنهجه (الانفتاح الكليّ على الله). فنجد أن المسيح رفض سراب السلطة والملك، ووهم التملك والمال... ولأن حياته كانت متجهة كليا نحو الله ، كانت متجهة كليّا نحو الآخرين.
ويمكننا القول أن الله بالمسيح أعاد تنقيّة الفكر البشري (من فكرة أن الله منافس للإنسان)، وبالمسيح أكد أنه محبة، بالمسيح أعلن أن به يمكننا عمل أي شيء وبدونه لا نستطيع عمل شيئاً.
وكان الصليب والموت ثمناً وتأكيداً لمحبة المسيح، وكانت القيامة رداً من قبل الله، وانتصاراً للمسيح وتأكيداً على صدق رسالته.
موقف التلاميذ الإيماني:
يسوع هو كلمة الله المتجسدة، هذه حقيقة إيمانيّة، إلاّ أن هناك بعض التساؤلات الخاصة بيسوع (كإله تام وإنسان تام)، وتساؤلات عن موته (لماذا الصليب؟)، وتساؤلات عن قيامته (كيف قام؟)...
+ الموت:
يُعرَّف الموت علميّاً بأنه توقف جذع المخ، وفلسفياً بأنه خروج الروح عن الجسد (جثة)، إيمانياً بأنه انفصال الإنسان عن الله بالخطيئة. وعندما نتكلم عن موت المسيح نقصد الموت الجسدي، هذا الموت الّذي أكد به المسيح أنه إنسان كمال وبالتالي كان لموته بُعداً خلاصياً “موت فدائي” (راجع: 1كو15/3)، وخلاصنا هو ثمرة محبّة الله لنا.
+ المسيح والقبر الخالي: (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة 640-655).
ليس القبر الخالي في حد ذاته برهاناً مباشراً فمن الممكن تفسير اختفاء جسد المسيح من القبر على نحو آخر(راجع: يوحنا20/13). ومع ذلك فإن القبر الفارغ كان للجميع علامة جوهريّة. واكتشاف التلاميذ له كان الخطوة الأولى للوقوف على واقع  القيامة نفسه. تلك حال النسوة القديسات أولاً(راجع: لوقا 24/3،22-23)، ثم حال بطرس (راجع: لوقا24/12). و “التلميذ الّذي كان يسوع يحبه” (يوحنا20/2)، رأى وآمن (يوحنا20/8). وهذا يعني أنه عندما رأى خلو القبر وغياب يسوع عرف أنه قام.
+ خلاصات موجزة:
1.المسيح وهو البار مات من أجل خطايانا. وكان موته تأكيد لحقيقة التجسد (فابن الله المتجسد هو الّذي مات بالحقيقة وقام؛ ولذلك لم يرى فساداً (أعمال13/37)).
2.خلاصنا هو ثمرة محبّة الله لنا.
3.المسيح قدم نفسه بحريته واختياره، وهذه التقدمة حققها مسبقاً أثناء العشاء الأخير مع تلاميذه.
4.أقامه الله من بين الأموات لأنه أطاع فكانت القيامة انتصار وتأكيد لرسالة وحياه المسيح كلها. والعهد الجديد يؤكد على أنه لا موت بلا قيامة ولا معنى للقيامة بدون الموت.
5.الإيمان بالقيامة يتناول حدثاً يثبته تاريخياً التلاميذ الذين لقوا القائم بالحقيقة، ولكنه حدث يسمو سرّياً في كونه دخول الناسوت في مجد الله.
6.القبر الفارغ واللفائف المطروحة تعني في ذاتها أن جسد المسيح أفلت من قيود الموت والفساد بقدرة الله.
7.المسيح “البكر من بين الأموات” (كورنثوس1/18)، هو مبدأ قيامتنا الخاصة، منذ  الآن بتبرير نفسنا (راجع: رومية6/4)، وفي الزمن الآتي بإحياء جسدنا (راجع: رومية8/11).
+ يسوع نزل إلى الجحيم:
الجحيم هو مقرّ الأموات، بما أن موت وقيامة المسيح هما مصدر خلاص شامل وجامع (ليس آلياً أو مفروضاً على الكلّ)، فقد استفاد منه أيضاً من كانوا في الجحيم لا سيما من كانوا في انتظار للخلاص.
وقضيّة نزول المسيح للجحيم هي قضيّة إيمانيّة. والعهد الجديد يؤكدها ويشهد لها  لسببين: الأوّل، ليوضح انتصار المسيح الكلي على الشّرّ والموت “بموته داس الموت”. والثاني، ليؤكد أن المسيح يملئ الكلّ، ويملك على الكلّ.
ففي موت المسيح التقى الآب كلّ البشرية بما في ذلك البشريّة البعيدة عنه. ولا يُمكن أن ننسى أن الفداء بالنسبة للمؤمنين هو انفتاح أبواب الجحيم وسيادة الرب (متى16/18)، والكنيسة هي أداة توصيل هذا الخلاص (ببطرس3/18).
وخلاصة القول أن المسيح عرف الموت كسائر البشر لكن الفرق يكمن في أنه لم ينزل الجحيم محكوماً عليه بل “مخلصاً” ، ومعلناً البُشرى للنفوس المحتجزة فيه. وبالتالي فالنزول إلى الجحيم هو ملء خطة الله الخلاصيّة، حيث تغلب المسيح على الموت والشرير وإعلان الخلاص.
قيامة المسيح
قيامة المسيح هي حجر الزاويّة لكل الإيمان المسيحي، لأنه بدون قيامة لا إيمان ولا كنيسة ولا مسيح. وقيامة المسيح هي “حدث  فريد” تماماً يختلف كلّ الاختلاف عن إقامة اللعازر من الأموات أو ابن أرملة نايين...
1- قيامة المسيح والتاريخ:
هل قيامة المسيح حدث تاريخي؟ سؤال يطرح نفسه دائماً والإجابة عليه لا تتم إلاّ من خلال “نعم” و “لا”
 أ ) “لا”
+ لأن قيامة المسيح هي خروج عن التاريخ، خروج يصعب وصفه خاصة لنا نحن الذين نحيّ في داخل التاريخ.
+ لأنه لا توجد براهين محسوسة ملوسة حول القيامة (وهذا لا يعني عدم وجود براهين على الاطلاق.
ب) “نعم”:
+ لأن هناك شهادات تاريخية لأناس عاشوا حدث القيامة وشهدوا عنه.
+ لأن القائم نفسه ظهر عدة مرات “الترائيات”، وهي ذي قيمة موضوعيّة من حيث
أن القائم هو المبادر دائماً فيها.
+ مرور التلاميذ بثلاث مراحل:
- عاشوا وعايشوا المسيح قبل موته في حياته.
- عاشوا المحنة بعد القبض على المعلم، محنة اليأس التام والاحباط الشديد.
- عاشوا واختبروا المسيح القائم وتحوّلوا بفضل هذه الظهورات إلى شهود للقيامة.
وخلاصة القول أن المسيح حسب شهادات التلاميذ قام قيامة حقيقية ، قام بجسده الّذي كان لديه قبل القيامة إلاّ أن هذا الجسد له صفات مختلفة (جسد نوراني)، وأكدوا أن ما شاهدوه لم يكن شبحا أو وهماً بل هو الرب، وقدوا حياتهم لهذه الشهادة فواجهوا الموت والسيف ولم يتنازلوا عنها مطلقاً.
2- معنى وتأثير قيامة المسيح:
القيامة إثبات لكل ما عمل المسيح وعلّم به. إثبات لجميع حقائق الإيمان حتى الأكثر صعوبة منها على الإدراك البشري. وبالتالي فهي البرهان النهائي على حقيقة المسيح “كالمخلص”. وهي إيضاً إتمام لكل مواعيد العهد القديم (يوحنا8/8). وهي لذلك مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالميلاد، لأن في الميلاد (التجسد) دخل الله حياة البشر، وفي القيامة دخل البشر حياة الله (التبرير)، أي عادوا إلى النعمة التي فقدت بالخطيئة، أي اصبحوا “ابناء الله” بالتبني في المسيح الابن الحقيقي.
ومن هنا التأكيد على أن قيامة المسيح هي مبدأ وينبوع قيامتنا الآتية “فهو بكر الراقدين” (2كرونثوس15). فالمؤمنين بالمسيح القائم يختبرون القيامة الآن وهنا، حيث المسيح القائم يحيا في قلوبهم، وبه يتذوقون القيامة أي “حياة الله”.
الصعود
الصعود هو استمرار لسرّ المسيح الممجد بالقيامة، ومن هنا يأتي الارتباط الوثيق بين الصعود والقيامة (راجع: أعمال 2/23-36). القديس لوقا يتحدث عن أن المسيح صعد إلى السموات بعد أربعين يوماً (40يوم) في أخر إنجيله وأول إصحاح من سفر أعمال الرسل، “رفع يديه وباركهم، وارتفع عنهم إلى السماء” (لوقا24/50-53).، “يسوع بقيّ يترأى لتلاميذه مدة أربعين يوماً، ويكلمهم عن شؤون ملكوت الله” (أعمال1/3-10).
وعدد أربعين هو عدد رمزي يشير إلى مدة طويلة تمهد لحدث عظيم، وهو يذكرنا بالمدة التي قضاها اليهود في البريّة قبل أن يدخلوا أرض الموعد. أي أن شعب الله الجديد إختبر الرب القائم أربعين يوماً فبل أن يحلذ عليه روح الرب. ومن هنا نفهم أن المسيح القائم كان يعلّم تلاميذه، أي يعدهم كما أعد الرب الشعب القديم ويهيأهم لعطية الروح، وبالتالي لحمل الرسالة؛ لأنه حيث عطيّة الروح فهناك رسالة وحيث هنك رسالة فهناك عطيّة الروح.
والقديس مرقس يذكر “السحابة” (مرقس9/7)، وكلمة سحابة هي كلمة ذات خلفيّة كتابيّة لأنها تعني “حضور الرب”، لأن الله لا يرى بأعين الجسدن فيرمز له بالسحاب. ودخول المسيح في المسيح في السحاب يعني دخوله في مجد الآب.
إذن السحابة تعني الله لا يري لكنه موجود
..
السماء:
       · ليست مكان، فهي تعني السمو والعلو، وتدل على مجد الرب يسوع.
       · ليست الفضاء الخارجي المحيط بالأرض، إنها لفظ يشير إلى الله، وتعتي الدخول في مجد الآب.
       · الجلوس عن يمين الآب؟  مت 26: 54 وتعني أن يسوع بالقيامة يشترك في سلطة الآب يو17:5 ؛ في 2: 4-11.

القانون الطبيعي عند توما الاكويني

ضمن بعض أهم القضايا الفكرية المطروحة الآن على صعيد الحياة الأوروبية والدعوات المنطلقة لجهة عودتها إلى جذورها وفي مقدمتها المسيحية -كما يؤكد البعض- يجيء الحديث عن إشكالية القانون الطبيعي الذي يوجه حياة الإنسان وهو طرح لاهوتي واجتماعي في آن واحد يعود للعلامة الكاثوليكي توما الاكويني "1225-1274".

ولعل احدث الأصوات التي طالبت بحتمية العودة إلى قراءة أبجديات فكرة وجوهر "القانون الطبيعي" كان البابا بندكتس السادس عشر ففي يوليو تموز المنصرم أكد بابا الفاتيكان على أن "جميع الناس من المؤمنين وغيرهم الاعتراف باحتياجات الطبيعة البشرية التي تتجسد في القانون الطبيعي والاسترشاد بها في صياغة قوانين ايجابية أي تلك التي تصدرها السلطات المدنية والسياسية لتنظيم المجتمع" وفق تعبيره.

وعند بابا روما الرئيس الديني والروحي للكاثوليك حول العالم وصاحب الدعوة الأشهر لعودة أوروبا إلى جذورها المسيحية "انه عندما ينكر القانون الطبيعي والمسؤوليات التي تترتب عليه يفتح بشكل مأساوي الطريق نحو النسبية الأخلاقية على الصعيد الفردي بشكل خاص، ومن ناحية سياسية الدولة بشكل عام. مشددا على أن "الدفاع عن حقوق الإنسان والتأكيد على كرامته أمر مسلم به أساساً متسائلاً "ألا يشير القانون الطبيعي إلى أن هذا الأساس يعد من القيم غير القابلة للتداول؟" حسب قوله.

هذه المداخلة من قبل الحبر الأعظم تطرح في واقع الأمر عدة تساؤلات جوهرية حول حتمية فكرة القانون الطبيعي في الكون وعن روية الأكويني لهذا القانون والتأثير الذي خلفه على أوروبا في القرون الوسطى وكذلك النقد الذي وجه لها من أنصار الاتجاه المثالي المعاصرين والكثير من علامات الاستفهام التي نستهلها برؤية مختصرة في دون خلل عن حاجة الإنسان بادئ ذي بدء إلى وجود قانون ينظم حضوره في الكون.

في حاجة الإنسان إلى القانون الطبيعي

يبقى أفضل واقرب بل وابسط تعريف للقانون هو انه ظاهرة اجتماعية ورباط وعقد يستهدف تنظيم سلوك الأفراد في المجتمع وما ينشا بينهم من علاقات متعددة ولذلك فالقانون يتأثر بكافة العوامل المؤثرة في مجتمعنا الإنساني فهو يتأثر بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجغرافية فيجب أن يتجاوب القانون مع مقتضيات هذه العوامل حتى يكون متفقا مع واقعنا ومستجيبا لأي تطور يحدث فيه.

وقد سعى الإنسان منذ أقدم العصور إلى تحقيق العدل في صورة مثالية تسمو على قواعد القانون الموضوع بإرادة البشر.

وقد ظهرت أولى المدونات القانونية المعروفة في بلاد بابل بأرض العراق وقد جمع احد ملوك بابل ويدعى "أورنا موفي" حوالي سنة 2100 ق.م أقدم مجموعات القوانين المعروفة.

وأنشأ حكام بابليون آخرون مجموعات خلال القرون التالية وصاغ الملك حمورابي خلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد أكثر هذه المدونات أو المجموعات القانونية شهرة واكتمالا، ثم بعد ذلك تمكنت حضارة الإغريق القديمة من صياغة القانون كنظام ذي ملامح إنسانية.

ومما لاشك فيه أن هناك من سبق الأكويني في الحديث عن فكرة القانون الطبيعي -وان بمسحة غير لاهوتية- فقد عرفة الفقيه شيشرون بأنه قانون مطابق للعقل السليم، متفق مع الطبيعة معلوم للجميع ثابت على وجه الدوام ويعتبر القانون الحقيقي الذي لا يتغير من روما إلى أثينا، ولا من اليوم إلى الغد، حيث تعبر قواعده عن الطبيعة ذاتها سواء تمثلت في دوافع الحيوان أو دوافع الإنسان ولكنها بالطبع عند الإنسان أكثر تطورا.

ويترتب على ما سبق القول أن القانون الطبيعي هو المعيار الأكثر شمولا الذي يتعين أن تسير عليه الجماعة حيث تنبثق منه المبادئ الأساسية العامة مثل مبدأ حرية الإنسان ومبدأ المساواة بين البشر ومبدأ تحريم الرق.

فيما يرى الأكويني أن القانون الطبيعي هو انعكاس لحكمة الله مثلما هو القاعدة أو الحكم التي تعلم الصواب لأنه يفيض بالضرورة من ذات الله المقدسة ويحدد طبيعة الأشياء كما هي قائمة في ذات الله... من هو الأكويني أول الأمر؟

في مولد الأكويني ونشأته الأولى

ولد توما الأكويني بين عامي 1224 و 1225 في قصر عائلته النبيلة الغنية وكان لها أملاك في "روكاسيكا" في ناحية أكوينو "جنوب ايطاليا" بالقرب من دير مونتي كاسينو الشهير حيث أرسله والداه لتحصيل المواد الأولى من التعليم.

انتقل الشاب الصغير توما بعد سنوات قليلة إلى نابولي عاصمة مملكة صقلية حيث كان فريدريك الثاني قد أسس جامعة عريقة كان يعلم فيها فكر الفيلسوف اليوناني أرسطو من دون القيود المطبقة في أماكن أخرى، وبدأ بدراسته وأدرك على الفور قيمته الكبيرة لكن وقبل كل شيء نشأت دعوته الدومينيكانية في تلك السنوات التي قضاها في نابولي وقد اجتذب توما مثال الرهبنة التي أسسها القديس دومينيك قبل بضعة سنوات ومع ذلك وعندما ارتدى الثوب الدومينيكاني عارضت عائلته هذا الخيار فاضطر إلى ترك الدير وقضاء بعض الوقت مع أسرته.

في العام 1245 كان توما قد أصبح بالغا وتمكن من استئناف رحلته الدراسية في باريس لدراسة اللاهوت تحت إرشاد المعلم الكبير "البرتوس الكبير" وقد قامت بينهما صداقة عميقة وحقيقية وتعلما أن يقدرا ويحبا بعضهما البعض حتى أن البرتوس أراد أن يتبعه تلميذه إلى كولونيا حيث أرسله رؤساء الرهبنة من اجل وضع مركز الدراسة اللاهوتية فتواصل توما مع جميع أعمال أرسطو ومع المعلقين العرب عليه، والذين كان البرتوس يفسرهم ويشرحهم، وقد قام توما الأكويني في مدرسة البرتوس الكبير بعملية بالغة الأهمية بالنسبة لتاريخ الفلسفة واللاهوت وربما في تاريخ الثقافة الأوروبية المسيحية فقد درس أرسطو ومفسريه دراسة وافية واستحصل على ترجمات لاتينية جديدة للنصوص الأصلية اليونانية وهكذا لم يعتمد فقط على المعلقين العرب بل كان يمكنه أيضا قراءة النصوص الأصلية شخصيا... ماذا عن أهم مؤلفات الأكويني والتي من خلالها نتلمس الطريق في الحديث عن فكرته للقانون الطبيعي؟

الأكويني ومؤلفات واسعة الثراء

تنقسم كتب توما الأكويني التي كانت كثيرة وثرية للغاية مقارنة بعمره القصير (49 عاماً فقط) إلى خمسة أقسام "حسب رولان جوسلان" هي: المجموعات اللاهوتية، شروحات على الكتابات الفلسفية، الكتب اللاهوتية، المسائل المتنازعة، السؤال والجواب.

كانت كتبه متنوعة بين الفلسفة واللاهوت فقد كتب "الوجود والماهية" سنة 1253 ضد ابن جبرول وفي سنة 1256 شرح تقريباً جميع كتب أرسطو المعروفة، كذلك شرح الأسماء الإلهية وله شروحات في الكتاب المقدس سميت بشروحات السلسلة الذهبية غير أن أهم كتابين له هما:

Summa-contra Gentiles "الخلاصة ضد الأمم": وهم أهم كتاب له وضعه ما بين 1254-1265 وفيه حاول بناء هيكل لمعرفة الحقيقة حسب الإيمان المسيحي وذلك عن طريق إقامة جدال خيالي مع شخص غير مؤمن بالمسيحية.

في هذا الكتاب يحاول شرح مفهوم الحكمة فالحكيم هو الشخص الذي يعرف نهاية الأشياء أي محصلة العمليات أو الحوادث وشبهها بالبناء الذي يملك تصورا عن شكل البناية في النهاية. وكان يرى أن "لنهاية كل عملية خاصة علاقة جزئية مع النهاية الخاصة بالكون" وعليه فان الرجل الحكيم هو الشخص الذي يهمه المعرفة النهائية بالكون التي هي  أسمى خير يمكن أن يمتلكه العقل.

Summa-Theologiae "الخلاصة اللاهوتية": ومكتوب على شكل جدال فلسفي أيضاً، وهو آخر كتبه الذي بدأه ولم يكمله بسبب مرضه ويحتوي على 48 بحثاً.

 يبحث القسم الأول عن الله كمبدأ للكائنات وفي التثليث وصدور الخليقة عن الله. وفي الجزء الثاني يتكلم عن الله غاية الكائنات. وفي الجزء الثالث يتطرق إلى المسيح الوسيط بين الله والكائنات والإسرار وعواقب الإنسان.

في بحث الأكويني عن القانون الطبيعي

ومؤكد انه من الخطأ حصر فكر الأكويني لجهة تعاطيه مع مسالة القانون في فكرة القانون الطبيعي وحسب ذلك لأنه أولى جل اهتمامه للبحث عن القانون أصله، ونشأته وأركانه وأفاض فيه وللقانون عند توما الأكويني أربعة أنواع:

1- القانون الأولى Eternal law  يطابق التدبير الإلهي للعالم أو هو القانون الذي يحكم به الله العالم وهو الحكمة الإلهية المنظمة للخليقة ومن ثم فهذا القانون يسمو على الطبيعة البشرية ويعلو فوق فهم الإنسان ومع ذلك فهو ليس غريبا عن الإدراك الإنساني آو مضاد لقواه العقلية.

2- القانون الطبيعي natural law  وهو بمثابة انعكاس للكلمة الإلهية على المخلوقات وهي تتجلى في رغبات الإنسان الطبيعية التلقائية في فعل الخير ومعنى هذا أن القانون الطبيعي هو القانون الذي يحكم به العقل أو النفس الفاضلة التي تتأثر بالقانون الأزلي.

3- القانون الإلهي أو المقدس Devine law  ويتمثل في الشرائع والأحكام التي أتت عن طريق الوحي أو التبليغ كالشريعة الخاصة التي انزلها الله على اليهود في اللوحين المحفوظين وكالتشريعات المسيحية التي جاءت عن طريق الكتب المقدسة أو الكنيسة وهذا القانون الإلهي يكون بمثابة التبدي الواضح كالقوانين الثلاثة إذ هو أساسها ومبدأها.

4- القانون الإنساني Human law  ولما كان من المتعذر تطبيق الأنواع الثلاثة السابقة للقانون على بني البشر تطبيقا كليا وعاما فلقد قام القانون الإنساني الذي وضع خصيصا ليلاءم الجنس البشري وهو قانون أنساني خالص وان كان لم يأت بمبادئ جديدة إذ هو مجرد تطبيق للمبادئ العظمى التي سادت من قبل.

ويرى توما الأكويني أن طاعة القانون واجبة طالما كان عادل أما القانون الظالم فإذا كان معارضا للقانون الطبيعي وللقانون الإلهي وللقانون الأزلي فلا تجوز له الطاعة بأي حال من الأحوال، أما إذا كان معارضا لحق ثانوي فرعي فيطاع متى كانت مخالفته اشد خطرا على المجتمع.

في نشأة القانون الطبيعي عند الأكويني

يؤكد الأكويني في خلاصته اللاهوتية على أن الإدراك الطبيعي هو شيء مشترك بين البشر أجمعين لذلك يتفقون في قواعد الخير الأساسية كالامتناع عن الكذب والسرقة والتعدي، وان كانوا يختلفون في تفاصيل أخرى عائدة إلى ظروف الحياة وأطوارها وللعزة الإلهية، كما يرى الأكويني دور محوري في هذه الأمور فالعقل الإنساني الطبيعي ليس إلا الصورة التي شاءها الله وجعلها تطلب الخير بسجية طبيعية كيانية.

والثابت حكما انه لكل نوع من أنواع الكائنات الحية نظام يرتب حياته ويبرز هذا النظام بشكل جلي لدى بعض منها كالنمل والنحل لكن خضوع هذه الكائنات للنظام يصدر عن الغريزة فلا معرفة واعية لديها أو إرادة حرة في التقيد بها أما في المجتمعات الإنسانية فالأنظمة مرتبطة بالعقل والإرادة أي أنها نوع من التعاقد بين الناس.

هنا يرى توما الأكويني أن نشوء الاجتماع الإنساني تم وفق قانون طبيعي يجسر "القانون الأزلي" للحياة لان لله خلق الإنسان مدنيا بطبعه ومالكا بالفطرة لمبادئ الحق والخير الأساسية ولا يقر مع القديس اغسطينوس بان غاية الاجتماع هي استمتاع الناس بما يحبون بل أنها سعي الإنسان إلى تحقيق طبيعته الإنسانية أي تحقيق غايته كانسان.

وهنا فانه على الدولة أن توفر له العون الذي يمكنه من ذلك وبالرغم من أن التشريع وممارسة الحكم يعودان إلى الدولة فان الكنيسة تكون مسؤولة عن المبادئ الأخلاقية والدينية فتاتي تشريعات الدولة متناغمة مع هذه المبادئ لان الغاية الزمنية التي تنشدها القوانين يجب أن تكون موجهة نحو غاية أبدية لا زمنية عائدة للإرادة الإلهية.

ويذهب الأكويني إلى انه كما أن النفس تدبر الجسد والأب يدبر الأسرة والله يدبر العالم كذلك على الحكم أن يتولى تدبير الحياة المدنية.

ويشدد على أن حكم الفرد الفاضل خير من الحكم الارستقراطي والحكم الارستقراطي خير من الديمقراطية فكلما  حصر الحكم في يدي قوة واحدة كان أفضل للناس شرط أن تكون هذه القوة فاضلة تسعى إلى الخير لذلك من الأفضل أن يتم تعيين هذا الحاكم الفرد استنادا إلى الانتخاب الذي يطلب الفضيلة لدى الحاكم لا استنادا إلى النسب العائلي.

وتمتد نظرة القانون الطبيعي إلى نظام الحكم فيرى الأكويني أن الأنظمة قابلة للتغيير وقابلة للفساد وفق طبيعة الحياة التي تخترقها طبيعيا جرثومة الشر وعليه يذهب إلى القول أن خير الأنظمة التي تكفل التوازن والخلاص من الطغيان هو الملكية المعدلة بشيء من الارستقراطية والديمقراطية معا أي مجلس ارستقراطي ينتخبه الشعب شبيه بذلك النظام الذي وضعه الله لموسى النبي ذاك الذي كان يحكم بني إسرائيل بمعونة مجلس مؤلفا من 72 رجلا من الحكماء ليحكموا الشعب ويكون الشعب قد اختارهم.

ومهمات الدولة كما يقررها الأكويني تقتضي حماية الناس من الأخطار الداخلية والخارجية، الخطر الداخلي تتم الحماية منه استنادا إلى القانون الطبيعي للحياة الذي يقضي بضمان حق الإنسان في العيش استنادا إلى مبدأ العدالة وبضمان حقه في إنشاء علاقته بالآخرين استنادا إلى مبدأ المساواة.

هذا الخير في العدل والمساواة يقره العقل الطبيعي والقانون السرمدي الإلهي معا لذلك يجب أن يكون هذا القانون السرمدي الذي ينص على كل المبادئ الخيرة مصدرا للتشريع إذ لا يحق للحاكم وضع القوانين التي تتعارض وإرادة العزة الإلهية.

الحق الطبيعي والجذور الأبعد

في موسوعته الرائدة "الخلاصة اللاهوتية" يذهب الأكويني إلى أن الطبيعة  أكثر أهمية للإنسان حتى وان كانت النعمة أكثر فعالية من الطبيعة ولهذا هناك في المنظور الأخلاقي المسيحي مكان للعقل الذي يستطيع أن يميز القانون الأخلاقي الطبيعي، ويمكن للعقل أن يعرفه من خلال اعتباره ما هو جيد عمله وما هو  من الأفضل تجنبه لتحقيق السعادة العزيزة على قلب الجميع والتي تفرض أيضا مسؤولية تجاه الآخرين وبالتالي البحث عن الخير العام.

وبعبارات أخرى أن فضائل الإنسان اللاهوتية منها والأخلاقية متجذرة في الطبيعة البشرية وترافق النعمة الإلهية الالتزام الأخلاقي وتدعمه وتدفع إليه وكل البشر مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين مدعوون بحد ذاتهم وفقا للقديس توما للاعتراف باحتياجات الطبيعة البشرية المعبر عنها في القانون الطبيعي والاسترشاد بها في صياغة القوانين الوضعية أي تلك التي تصدرها السلطات المدنية والسياسية لتنظيم التعايش بين البشر.

ومما لاشك فيه هو أن الجذور الأبعد لفكر الأكويني تعود إلى رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية "2-15" حين يتكلم عن الشريعة المكتوبة في القلوب. وعندما عالج الأكويني موضوع الحق الطبيعي في الجزء الثاني من الخلاصة اللاهوتية فانه اتخذ من الشريعة الأبدية كما تظهر في قصد الخلق الإلهي مبدأ أوليا ومتساميا على كل نظام ومن الشريعة الأبدية ينبع الحق الطبيعي ويستمد منها  معناه.

والمحقق أيضا أن الفكر المسيحي لاحقا ادخل اختلافا أخر عن الفكر الرواقي فكما أن الحق الطبيعي يتميز عن الشريعة الأبدية فكذلك يتميز علم الإنسان anthropology عن علم الكون cosmology ويصبح الحق الطبيعي سمة من سمات الكائن العاقل فقط، ولا يعني الكائنات الحية والبيئة الطبيعية المحيطة بالإنسان لان الحق الطبيعي هو بمثابة قاعدة ونظام لجماعة إنسانية وهو يعتمد على العقل والحرية وفي الإنسان المخلوق العاقل فان الخضوع للناموس الأبدي هو اشتراك ايجابي في العناية الإلهية وبالتالي كما يقول توما الأكويني في معرض حديثه عن الحق الطبيعي فالإنسان المخلوق على صورة الله والمسلط على العالم هو عناية لنفسه وللآخرين على صورة العناية الإلهية.

تطور القانون الطبيعي في أوربا الوسطى

لم تتوقف فكرة القانون الطبيعي عند حدود ما قال به توما الأكويني فقط ذلك انه مع سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على مقدرات العصور الوسطى اصطبغت فكرتي الدولة والقانون بالطابع الديني فالدولة والقانون ليس سوى تعبير مباشر عن إرادة الخالق.

وقد ظهر أثناء الانتقال من العصر الإقطاعي إلى عصر الرأسمالية الناشئة وفي خضم هذا الصراع بين أنصار الكنيسة وأنصار استقلال الدولة اتجاه جديد يمكن اعتباره اتجاها ثوريا بالنسبة لأفكار ذلك العصر حيث يدعو إلى تطوير نظرية القانون الطبيعي من ناحية إخفاء الطابع العلماني للدولة ويؤكد من ناحية أخرى حقوق الفرد في مواجهة الدولة ذاتها وقد تبنت هذه الأفكار الجديدة الطبقة البرجوازية التي أمسكت بزمام النظام الرأسمالي الوليد في مطلع القرن السابع عشر ونزولا على هذا المعنى الجديد تطورت فكرة القانون الطبيعي في اتجاهين رئيسيين:ـ

الاتجاه الأول: يبرز الطابع العقلي لفكرة القانون الطبيعي مع التركيز على تجريد الفكرة من صيغتها الدينية السابقة فالعقل هو مصدر ذلك القانون وأي إنسان أيا كانت ديانته يستطيع بحكم خصوبة عقله أن يهتدي إلى قواعده التي تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى أخر.

الاتجاه الثاني: يمثل تطويرا لفكرة العقد الاجتماعي كمحدد لسلطة الدولة في مواجهة مواطنيها حيث يولد الأفراد متمتعين بحقوق طبيعية والدولة هي مؤسسة تستهدف بصفة أساسية حماية تلك الحقوق.

ويفترض فقهاء هذا العقد أن انتقال الأفراد من حالة الطبيعية البدائية غير المنظمة إلى حالة الدولة قد تم بمقتضى اتفاق تنازل الأفراد عن جزء من حقوقهم في مقابل أن تضمن لهم الدولة التمتع الحر والكامل بحقوقهم الأخرى ويترتب على ذلك أن تصبح الدولة من خلق إرادة الأفراد ويصبح لهم الحق في تعديل نظامها بما يتفق مع مصالحهم.

وكان من ابرز الفلاسفة الذين طوروا فكرة القانون الطبيعي في العصر الحديث جورجيوس وتوماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو.

ولاحقا تطورت الاتجاهات الديمقراطية في مدرسة القانون الطبيعي تطورا هاما بقيام الثورة الفرنسية فقد قامت هذه الثورة تحت شعار الدفاع عن الحريات والحقوق وقد صنع هذا الشعار بطريقة واضحة في إعلان حقوق الإنسان سنة 1789م والصادر عن الجمعية التأسيسية الفرنسية "أن غاية كل مجتمع سياسي هي المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية التي لا تزول وهذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الظلم".

كما أن الحرية بناء على مفهوم الثورة الفرنسية تتضمن القدرة على إتيان كل ما لا يضر بالغير ولذلك فان ممارسة الحقوق الطبيعية لكل إنسان ليس لها من حدود سوى تلك التي تؤمن لأفراد المجتمع الآخرين التمتع بذات الحقوق وبذلك تكون الثورة الفرنسية قد دعمت نظرية الحقوق الطبيعية ودفعت بها إلى جهة بناء المذهب الفردي الذي ازدهر في القرن التاسع عشر.

عودة فكرة القانون الطبيعي من جديد

بعد أن انقضت العصور الوسطى وزال عهد الإقطاع وبدأت تتكون الدول الحديثة ظهر مبدأ سيادة الدولة الذي أطاح بالسطوة الفكرية والذهنية للكنيسة، وقد قام فريق من الكتاب والفلاسفة في القرن السادس عشر بالدعوة لهذا المبدأ ومناصرته ومن أشهرهم ميكيافيلي في ايطاليا وبودان في فرنسا، فميكيافلي من خلال كتابه الأمير أعطى للحاكم كل الوسائل لدعم سلطته "الغاية تبرر الوسيلة"، أما بودان فكان يدعو إلى سيادة مطلقة وفي سبيل ذلك احل لصاحب السلطان أن يتحلل من القوانين التي يفرضها على رعاياه فالحاكم فوق القانون وقد نتج عن المغالاة في تصوير فكرة سيادة الدولة اختفاء فكرة القانون الطبيعي خلال القرن السادس عشر وطغت سلطة الدولة على حقوق الأفراد وحرياتهم في الداخل وسادت القوة في تنظيم علاقاتها مع الدول الأخرى في الخارج.

وقد أدى هذا إلى الحاجة مرة أخرى إلى فكرة القانون الطبيعي وقد ازدهر هذا الأخير في القرنين السابع والثامن عشر بسبب تحرر الدول الأوروبية من هيمنة الكنيسة ودعا الفقهاء آنذاك إلى وضع قوانين تصون حقوق الأفراد وحرياتهم بعيدا عن استبداد الحكام وكذا إخضاع المجتمع الدولي لقواعد أساسها العدل والمساواة.

وكان الرائد آنذاك الفقيه الهولندي "جروسيوس" الذي اصدر كتابا عن الحرب والسلم بعنوان "قانون الحرب" سنة 1625 حيث عرف فيه القانون الطبيعي بأنه "القواعد التي يوحى بها العقل القويم والتي بمقتضاها يمكن الحكم بان عملا ما يعتبر ظالما أو عادلا تبعا لكونه مخالفا أو موافقا لمنطق العقل، وهو وليد العقل ووليد الطبيعة، يكسب منها صفة الوحدة والثبات والخلود فلا يتغير بتغير الزمان أو المكان لان القانون الطبيعي قانون مستخلص من الطبيعة ومن العقل ليسبق القوانين الوضعية ويعلو عليها ومن ثمة فالعقل يفرض وجود حقوق لصيقة بالإنسان تولد معه فهذه الحقوق هي مبدأ أساسي من مبادئ القانون الطبيعي لا تستطيع القوانين الوضعية أن تتجاهله ومع ذلك لم يتحرر هذا الفقيه حينما اقر الفتح والغزو ونظام الرق من تأثير عصره والحرية في رأيه وان كانت من أهم الحقوق إلا انه يمكن النزول عنها بموجب معاهدة أو عقد كما يمكن فقدانها نتيجة الهزيمة في الحرب أو الوقوع في الأسر.

انتقادات موجهة لمبادئ القانون الطبيعي

وكشأن كافة القضايا التي تتقاطع فيها النسبيات بالمطلقات كان ولابد أن يخضع طرح القانون الطبيعي للنقد فطوال القرن التاسع عشر تعرض لهجوم عنيف شكك في صحة فحواه وكان في مقدمة مهاجمي مذهب القانون الطبيعي أصحاب المذهب التاريخي الذين استندوا في حججهم على الواقعية ومن هذه الانتقادات ما يلي:

* إن القول بفكرة الخلود والثبات التي يتميز بها القانون الطبيعي في منطق أنصاره هو قول غير صحيح  يكذبه الواقع وينفيه التاريخ فالقانون وليد البيئة الاجتماعية وحدها وهي متغيره في الزمان والمكان فمن غير المعقول أن يثبت القانون على حال واحدة.

* أما القول بان العقل البشري هو الذي يكشف عن قواعد القانون الطبيعي فان ما يترتب عليه هو اختلاف هذه القواعد باختلاف الأشخاص الذين يستخلصونها بعقولهم ومن ثمة تختلف قاعدة القانون الطبيعي من شخص إلى أخر في مسالة واحدة.

* فيما يخص النزعة الفردية التي ألزمت مذهب القانون الطبيعي طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر والتي تأكدت في عهد الثورة الفرنسية ووجدت طريقها إلى معظم نصوص "تقنين نابليون" وكذا إعلان حقوق الإنسان التي أبرزت ودعمت هذه النزعة التي ترى بان المجتمع يعمل على كفالة يتمتع بها دون أن ينقص منها أو يقيدها.

هذا الاتجاه النقدي يذهب إلى أن القول بوجود قواعد ثابتة خالدة لا تتغير بتغير الزمان أو المكان لم يثبت من الناحية التاريخية، ورواد المدرسة التاريخية القانونية مثل "سافني" يرون أن القانون هو تعبير عن روح كل شعب وانعكاس لعبقريته الخاصة ولا يجوز بالتالي أن نقيد قواعد القانون الوضعي في دولة معينة بمبادئ ثابتة خالدة بحجة أن تلك المبادئ تنتمي إلى القانون الطبيعي.

ويرى فريق ثالث أن مبادئ القانون الوضعي لا جدوى منها من الناحية العملية فالتسليم بجدواها يقتضي ترتيب بعض النتائج التي تكفل لتلك المبادئ قدرا من الفعالية فقد كان يتعين من ناحية أن نفرض على الدولة واجب احترام القانون الطبيعي كما يجب من ناحية أخرى أن نعترف للأفراد بقدرة مخالفة القاعدة القانونية الوضعية أن خالفت قواعد القانون الطبيعي وهنا نسجل أن التاريخ يثبت لنا أن أي مجتمع سواء إن كان عربي أم غربي لم يتوصل إلى إقرار هاتين النتيجتين بطريقة محددة.

ويبقى الإشارة إلى انه من بين المآخذ على نظرية القانون الطبيعي أن مبادئها اتخذت منطلقا للنزعة الفردية وقد أدى ميلاد الفكر الاشتراكي الحديث إلى مهاجمة الفلسفة الفردية وبالتالي إلى مهاجمة نظرية القانون الطبيعي فقد اتجه الفكر الاشتراكي إلى تغليب مصلحة الجماعة على المصلحة الخاصة لكل فرد من أفراد الجماعة.

في القانون الطبيعي ذو المضمون المتغير

أدت الانتقادات الموجهة إلى مذهب القانون الطبيعي إلى إضعافه وكادت أن تهجر هذه الفكرة طوال القرن التاسع عشر ولم تبعث من جديد إلا بعد بداية القرن العشرين ونهاية القرن التاسع وفي سبيل إحياء القانون الطبيعي ظهر اتجاه القانون الطبيعي ذو المضمون المتغير بزعامة الفقيه الألماني "ستاملر" وقوام هذه النظرية أن هناك إطارا ثابتا للقانون الطبيعي يتمثل في فكرة العدل الاجتماعي وهذا إطار ثابت وخالد في الزمان والمكان لأنه قائم في ضمير الإنسان منذ الأزل أما مضمون هذا الإطار هو الذي يختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى أخر.

كان لابد إذن من تخلص القانون الطبيعي من الانتقادات والتناقض الموجه إلى قواعده فكان الفقيه "ستاملر" أن قام بالجمع بين الخلود والتطور في فكرة القانون الطبيعي في ما اسماه "القانون الطبيعي بالمضمون المتغير" ومضمون هذه الفكرة أن جوهر القانون هو مثل أعلى للعدل خالد ومتغير في نفس الوقت فهو خالد في فكرته متغير في مضمونه.

وينبني على ما سبق أن نظرية القانون الطبيعي ذات المضمون المتغير قد حاول التوفيق بين الخلود والعموم من ناحية وحقيقة التطور التاريخي من ناحية أخرى يضاف إلى ذلك أن الإطار الثابت للعدل يتحدد وفقا لهذه النظرية الجديدة بمجموعة من المبادئ القليلة التي لا تصلح في حد ذاتها للتطبيق العملي وإنما تقف فقط في دور الموجه العام التي يلتزم بها واضع القانون عند إعداد قواعده ومن قبيل ذلك وجوب احترام حقوق الإنسان والمحافظ على أمنه وتحقيق المساواة بين الأفراد.

وقد اعتنق هذه الفكرة الفقيه الفرنسي سالي ويتمثل جوهر هذه النظرة الجديدة في أن فكرة العدل في ذاتها خالدة أبديه وجدت في ضمير الإنسان على مر العصور وستظل إلى الأبد وهو أمر لا يتغير وبهذا تعتبر فكرة العدل الإطار الثابت والدائم للقانون الطبيعي أما الذي يتغير فهو مضمون هذا العدل وطريقه تحقيقه فهو مرهون بظروف الحياة الاجتماعية التي تختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى أخر.

القانون الطبيعي والتفاهم الإسلامي المسيحي

ولعل أهم النقاط التي يمكن أن نختم بها هذه الرؤية التاريخية ما جاء به البروفيسور الأمريكي "رالف بريبانتي" أستاذ كرسي ديوك الفخري في العلوم السياسية جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا الأمريكية عبر كتابه الشهير "الإسلام والغرب ... تعاون أم صدام" إذ يرى أن القانون الطبيعي هو -بدون شك- مجال مشترك بين الإسلام والمسيحية رغم أن أصوله وتعريف ما تزال قضية جدلية في الغرب.

ويرى بريبانتي انه لا يمكن توافر الحرية الإنسانية في نظام سياسي إذا كان معيار السلوك الأساسي لا يقوم على قوانين وضعها الإنسان إلى التنكر لمبادئ نواميس الفطرة وتزيد أهمية القوانين التي يبتدعها الإنسان ونواميس الفطرة إذا ما نظر إليها على أنها من أصل غيبي فإنها تلتقي عندئذ بالإسلام فالقران الكريم هو الجامع لتلك النواميس يليه المصدر الثاني "السنة الشاملة" وهو الحديث الشريف ثم القياس والإجماع والقران الكريم تليه هذه المصادر أساس التشريع الإسلامي.

والثابت انه يختلف المنظور الإسلامي عن الكاثوليكي من جهة الوحي كأصل لنواميس الفطرة فالوصايا العشر والعهد القديم والعهد الجديد هي في يقين المسيحيين الهام من الله للأنبياء والرسل والحواريين أما المسلمون فيؤمنون بان القران الكريم وحي من الله عن طريق الملاك جبريل وهذا يعني مساواة العصمة في الوحي والتوازي في المصدر الإلهي وهذا التوازي في الرأي بين المسلمين والكاثوليك على نحو خاص حرى أن يثمر درجة من التعاون بين الإسلام والمسيحية في كل زمان ومكان.

وسوف تنعكس أثار هذا التعاون بدورها على الساحة السياسية وسيكون من أثار ذلك أيضا تقدير أعمق لنواميس الفطرة من حيث قيمتها وحرمتها وإذا كما توافر المنطق السليم في النظر إلى الزمان والمكان فان الناتج السياسي لذلك هو إضفاء قيم احترام اكبر للآخرين فضلا عن الأثر السياسي الأثقل وزنا ... هل من عبارة نهائية؟

يناجي توما الأكويني ربه بالقول "ربي امنحني أرجوك، إرادة تبحث عنك وحكمة تجدك وحياة ترضيك ومثابرة تنتظرك بثقة وثقة تصل في نهاية المطاف إلى امتلاكك".

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة