الجمعة، 11 يوليو 2014

غضب المسيح للاخ فايز فؤاد


لماذا غضب؟... وكيف غضب؟

 

«وَلا تَجْعَلُوا قَرْعَةً بَيْنَ أَعْيُنِكُمْ لأَجْلِ مَيِّتٍ» (تث 14 :1)

«اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا» (أف 4 :26)
«كُونُوا رِجَالاً» (1كو 16 :13)

«هُوَذَا الرَّجُلُ!» (هُوَذَا الإنْسَانُ! ... Behold the man!) (يو 19 :5)

يتصف الكنعانيون بوجود الشعر مُتصلاً فى منطقة ما بين الحاجبين، مما يُضفي عليهم مظهر العبوسة والتجهم وقوة الشكيمة، لا سيما في حالة الغضب. وكان من عاداتهم ان يَخمشُوا أجسامهم، ويحلقوا ما بين الحاجبين ويجعلوا قَرْعَةً بين العينين لأجل الأموات، أي لإظهار العواطف الإنسانية ومشاعر الحزن نحو أحبائهم المائتين، وكأن لسان حالهم يقول: "إن الحزن على موتانا قد جعلنا أقل قوة وصرامة ورجولة".

أما شعب الله فكان في مستوى سام ومقدس؛ مستوى القرب إلى الله. وهذا القرب كان يجب أن يؤثر على عاداتهم وأخلاقهم. فجميع خصالهم وعاداتهم، أعمالهم وتصرفاتهم، طعامهم ولباسهم، الكل يجب أن ينبع من هذا الحق العظيم والامتياز السامي: «أَنْتُمْ أَوْلادٌ لِلرَّبِّ إِلهِكُمْ ... لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ» (تث14 :1,2)، ولذلك جاءت الوصية الإلهية أن لا يتشبهوا بشعوب الأرض وأن «لا تَجْعَلُوا قَرْعَةً بين أَعيُنكُم لاجل مَيْتٍ» (تث 14 :1).

والمدلول الحرفي لهذه الوصية الإلهية هو عدم الحزن المفرط والمبالغة فى إظهار العواطف البشرية إلى درجة تشويه المظهر الرجولي فى حالة وقوع ضربة الموت، باعتبار الموت دخل كقضاء عام نتيجة الخطية (رو 6 :23)
ويقابل هذا، أدبيًا وروحيًا وكنسيًا، عدم المساومة في أمور الله، ومحاولة تخفيف الأمور بغية التقاء وجهات النظر المشتركة، وخاصة فى وجود شر أدبي أو ضلال تعليمي يستوجب القضاء الإلهي! فلا يجوز أن يكون عندنا أقل تردد عندما نجد حقوق الله غير مُصانة وخاصة فى بيته. ويجب أن تقترن صلواتنا من أجل هذه الأمور بإيجابية التصرف والعلاج. ولا يجوز لنا بأي حال أن نُظهر السلبية وعدم الاهتمام، ونتراخى فى الأمر، ونقف على الحياد وكأن الأمر لا يعنينا فى شيء، أو كأننا لسنا مسئولين أو حراسًا لمقادس الرب في وسطنا، بل المبدأ الإلهي «لا تَجْعَلُوا قَرْعَةً بَيْنَ أَعْيُنِكُمْ لأَجْلِ مَيِّتٍ» (تث 14 :1) و«كُونُوا رِجَالاً» (1كو 16 :13) و«اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا» (أف 4 :26).

وتبقى مسئوليتنا قائمة إلى أن نأخذ مواقف جادة في صالح الله وقداسة بيته، ونحكم على الشر وننفذ المكتوب بالنسبة للشر الأدبي أو التعليم الخطأ بكل حزم وصرامة وشجاعة أدبية ورجولة روحية. بل إنه توجد ظروف لا يصلح فيها إلا الغضب المقدس المتقد كالنار. ولا نغالي إذا قلنا إنه في بعض الحالات يكون عدم الغضب شرًا لا يليق بالمؤمن الذي يحب الرب ويغار على مجده.
ويجب أن يتأكد كل منا أن التراضي والإهمال فيما له علاقة ببيت الله، مكروه جدًا في نظر الله، ولهذا نحن مطالبون بأن نرفض بكل حزم، ونقف بكل شدة في وجه كل التعاليم التي تمس تطبيق مبادئ قداسة الله داخل بيته، وفي مواجهة كل المحاولات التي يريد بها المعلمون الكذبة إفساد هيكل الله (1كو3: 17). والإهمال والحياد والتراخي والسلبية في كل ماله مساس بأمور الله، معناه الخيانة العظمى في نظر المحكمة العليا السماوية.
والرب يسوع المسيح هو مثالنا الكامل في هذا الأمر. إنه الشخص المبارك الذي عظَّم الناموس وأكرمه، وثبت الناموس وأكمَّله لمجد الله وخير شعبه الأبدي. لقد كانت الغيرة المقدسة على بيت الله، وهذه الغيرة جعلته يُطهِّر الهيكل مرتين في أيام جسده على الأرض. المرة الأولى في مستهل خدمته الجهارية (يو 2 :14-17)، والمرة الثانية على مشارف نهاية خدمته (مت 21 :12‚13 ؛ مر 11 :15-18 ؛ لو 19 :45-47). لقد أكرم الله أباه قائلاً: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي» (يو 2 :17 ؛ مز 69 :9). وبلغة تثنية 14 :1 فإنه كالرجل الكامل، لم يحلق ما بين حاجبيه، ولم يجعل قَرْعَةً بين عينيه في مشهد الموت الأدبي والروحي الذي رآه في الهيكل «فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ» (يو 2 :15).
وإننا نتعلم منه – تبارك اسمه – لماذا وكيف يكون الغضب المقدس في حياة الرجل القوي، البطيء الغضب والذي له سلطان على روحه (أم 25 :28 ؛ 16 :32).
أولاً: لماذا غضب المسيح؟
إنه من المهم جدًا أن ننتبه إلى الحافز أو الدافع إلى الغضب، لأن كثيرًا من غضبنا نحن مرجعه حب الذات والأنانية لأن شخصًا ما أساء إلينا. ولكن ربنا المبارك لم يغضب قط بسبب إساءة لحقت بشخصه.
إنه – تبارك اسمه – في ناسوته الكامل، كان له ملء الشعور والإحساس المرهف عندما وقف أحباؤه وتلاميذه بعيدًا عنه، وعندما كان أعداؤه يطلبون حياته، ويلتمسون له الشر، وعندما كانوا ينصبون له الشراك، ويتكلمون بالكذب ضده اليوم كله. لكنه كان يقول: «أما أنا فَكَأصَمَّ لا أسمع. وكَأبْكَمَ لا يفتحُ فاهُ. وأكون مثل إنسان لا يَسمعُ، وليس في فَمِهِ حُجَّةُ» (مز 38 :13‚14)، وهو «الذي إذ شُتِمَ لم يكن يَشْتِمُ عوضًا، وإذ تألمَّ لم يكن يُهدِّدُ بل كان يُسَلِّم لمن يَقْضي بعدلٍ» (1بط 2 :22)لقد «ظُلِمَ أما هو فَتَذَلَّلَ ولم يفتح فاهُ. كشاةٍ تُساق إلى الذَّبح، وكنعجةٍ صامتةٍ أمام جازِّيها فلم يفتح فاهُ» (اش 53 :7).
وتأملوا – أيها الأحباء – أمام رئيس الكهنة، وأمام بيلاطس، وأمام هيرودس، انظروا إليه مُكللاً بالشوك، ومضروبًا على الوجه، ومجلودًا ومُحتقرًا، وهو في كل ذلك لا يفقد هيبته وجلاله، ولا يتخلى عن هدوئه وصمته. لقد بقي ساكتًا في كل مشاهد الإهانة. ونقرأ عن سكوته في الأناجيل سبع مرات (مت 26 :63 ؛ 27 :12‚14 ؛ مر 14 :61 ؛ 15: 5؛ لو 23 :9 ؛ يو 19 :9).
ولكننا نراه يغضب لأن الهيكل، الذي يقترب فيه الإنسان من الله، انتشر فيه الفساد وخُرِّبَ روحيًا وأدبيًا، وأصبح مجالاًً لإشباع طمع وجشع القادة الدينيين واستغلالهم لشعب الله.
ونراه يغضب لأن الباعة والتجار والصيارفة يدنسون كرامة بيت الله، وبيت الصلاة أصبح بيت تجارة (اش 56 :7 ؛ يو 2 :16)، ومجالاً للربح القبيح بل ومغارة لصوص (ار 7 :11 ؛ مت 21 :13).
لقد كان لربنا يسوع الغيرة المقدسة على بيت الله «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي» (مز 69 :9 ؛ يو 2 :17). لقد كانت غضبته موجَّهة ضد الإهانة التي لحقت ببيت أبيه. وغيرته جعلته، ليس فقط يُطهِّر بيت الله، بل أن يمضي أيضًا إلى الصليب لكي يموت عليه، إذ قال بعد ذلك مباشرة: «ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ ... وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ» (يو 2 :19-21).
ثم نراه يغضب لأن نفرًا من متعصبي اليهود، ذوي العقول الضيقة، يفرضون قواعد عقيمة لحفظ السبت تحول بينه وبين فعل الخير وشفاء شخص مريض متألم يده يابسة «فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: مُدَّ يَدَكَ. فَمَدَّهَا. فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى» (مر 3 :1-6). لقد كان غضبه مقدسًا ومقبولاً، والسبب واضح، لقد حزن على غلاظة قلوبهم، وغضب لأنهم في ناموسيتهم لم يكن لديهم الرحمة والشفقة على الفقراء والمتألمين. ومع عجزهم التام لأن يسددوا تلك الحاجة، قاوموا بمرارة ذلك الشخص الوحيد الذي عنده القدرة والمحبة لأن يبارك ولأن يسدد كل احتياج.
إن هذا النوع من الغضب المقدس الغير أناني؛ الغضب الذي هو صورة من صور الغيرة على مجد الله وخير الآخرين، هو الذي يحرضنا عليه الرسول بولس قائلاً: ««اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا» (أف 4 :26). ويا له من درس خطير لنا نحن المؤمنين أن نهتم بمجد الله وكرامة بيته، وبصالح قطيعه، وبخير النفوس الغالية التي مات المسيح من أجلها.
ثانيًا: نوع غضب المسيح؟
إننا نعلم من الرب يسوع المسيح كيف يجب أن يكون الغضب في حياة الرجل القوي المالك روحه (أم 16 :32 ؛ 25 :28)، لأن كثير من غضبنا هو الضعف بعينه لا القوة. هو الصياح والصراخ وحدة الطبع وسوء الخلق وجموح العاطفة التي تعجز عن السيطرة عليها. وكثير من غضبنا قاس لا يلين ولا يرحم، ومُرّ لا أثر فيه للرقة والعذوبة، وحاقد لا يغفر ولا ينسي.
ولكن ماذا عمل الرب يسوع المسيح عندما غضب؟ إنه «لاَ يَصِيحُ وَلاَ يَرْفَعُ وَلاَ يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. 3قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لاَ يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ» (إش 42 :2‚3). نعم، لقد غضب «سَيًِدي» في مناسبات مختلفة، ولكنه – تبارك اسمه – لم يُخطئ قط في غضبه. فيا للكمال!!... ويا للجمال!!
ولقد كان غضب الرب دائمًا مقترنًا بالحزن. إن حزنه على الخطاة كان يمضي جنبًا إلى جنب مع غضبه على خطيتهم. والغضب الذي شعر به إزاء الخطية كان دائمًا مقترنًا بالإشفاق والعطف نحو الخطاة الذين ارتكبوها، ولم يكن في دخيلة نفسه أية كراهية شخصية. ففي مرقس 3 :5 نقرأ ««فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ». لقد نظر إليهم بغضب مقدس، ولكن خلف هذا الغضب كان هناك حزن شديد في قلبه لقساوة قلوبهم التي ظهرت في عدم المبالاة لحاجة الإنسان المسكين ذي اليد اليابسة.
ولقد نطق الرب بثمانية ويلات خطيرة على أولئك القادة الدينيين الذين أضلوا شعبه وقادوهم إلى رفضه، وأعلن أن الدينونة تنتظرهم، هم وأتباعهم (مت 23 :13-36)، ثم صرَّح بالحكم النهائي على أورشليم المدينة المحبوبة (مت 23 :37-39). ولكن كم كان قلبه مفعمًا بالحزن المقدس، فقد بكى عليها عند إقباله إليها (لو 19 :41-44). وما زالت هذه هي مشاعره نحو الخطاة الذين يموتون في خطاياهم.
وإن غضب الرب لا يتعارض مع محبته واستعداده الدائم للصفح والغفران. بل إن غضب المسيح هو الوجه الآخر لمحبته. فإن المحبة الصحيحة هي التي تغار للحق ولا تتساهل مع الشر. إنها «لاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ» (1كو 13 :6). ولا يليق أن تكون المحبة على حساب حق الله وكرامة بيته، فإن المحبة في هذه الحالة لا تكون محبة صادقة، بل رياء. بل إن المحبة القوية كالموت هي التي تنتج الغيرة القاسية كالهاوية (نش 8 :6). أفلا نرى في محبة الرب يسوع المسيح لهيب نار متقدة وغيرة لا يمكنها أن تتحمل أية إهانة تلحق مجد أبيه وبيته. وهذا ما حدث عند زيارة اللاب يسوع للهيكل في يوحنا2 فعندما «صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً وَالصَّيَارِفَ جُلُوساً. فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: ﭐرْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ. فَتَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي» (يو 2 :13-17).
لقد كان غضب الرب موجَّهًا ضد الإهانة التي لحقت ببيت أبيه، ولكنه لم يخطئ في غضبه. والمرء عادة عندما يغضب لا يكون متمالكًا لنفسه، ولربما يندفع إلى قول أو فعل خاطئ. لقد غضب موسى عند ماء مريبة لما رآه في الشعب، ولكنه لم يتصرف حسنًا وأخطأ إذ فرط بشفتيه (عد 20 :9-13 ؛ مز 106 :32‚33). لكن «رَبِّي وإلهي» لم يكن كذلك، فلا ترى منه أبدًا تهورًا أو اندفاعًا. حاشا! لقد لاحظ التلاميذ غيرة الرب، فعندما رأى الشر لم يسكت، لكننا يمكننا أيضًا أن نلاحظ حكمته واتزانه. ولاحظ كيف تعامل «سيَّدي» مع المشكلة:
لقد صنع سوطًا من حبالٍ، لكنه لم يضرب به أحدًا، بل طرد به الجميع – بدون استثناء – من الهيكل.
وبالنسبة للغنم والبقر، طردها، ولا خطورة من ذلك.
ودراهم الصيارف كبَّها. وهذه يمكن جمعها بسهولة.
أما بالنسبة للحمام، فإنه قال للباعة: « ﭐرْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا!» ولو فعل أكثر من ذلك لكان ممكن للحمام أن ينزعج ويطير بعيدًا ويستحيل جمعه ثانية ويضيع على أصحابه.
يا للروعة!! ويا للجمال!! ويا للكمال!!
هذا هو الرب يسوع الوديع الحكيم حينما يغضب!
ما أروعك يا سَيِّدي!
ما أروعك في وداعتك وتواضعك!
وما أروعك في غضبك وغيرتك!
وما أروعك في حكمتك واتزانك!
أيها الأحباء... إن الطمع الذي أفسد هيكل الله في أورشليم، قد دخل أيضًا إلى هيكل الله الروحي في المسيحية، بنتائجه المدم!ِرة. وها المُعَلِّمُونَ الكَذَبَةٌ – وما أكثرهم في هذه الأيام « يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ... وهم في الطمع يَتَّجِرُونَ بكم بأقوالٍ مُصنَّعةٍ» (2بط 2 :1-3)، وهم «يَظُنُّونَ أَنَّ التَّقْوَى تِجَارَةٌ» (1تي 6 :5)، ولذلك أتى الوقت لابتداء القضاء من بيت الله (1بط 4 :17). وإني إذا كنت أرى أو أسمع كلمات التجديف المهينة لشخص ربنا يسوع المسيح ولمجده، ومحاولات إفساد هيكله الروحي، ومحاولات التشكيك في صحة الوحي الكامل واللفظي للكتاب المقدس، إن كنت أرى أو أسمع هذه الأمور وأبقى جامدًا ولا تحتد روحي فيَّ، فإني لا أكون في الحالة التي يجب أن تميِّز المسيحي الذي يُحبّ الرب يسوع المسيح، ويعتز بمجده وكرامته. إن عدم الغضب في هذه الحالة هو عدم تقدير لمجد وكرامة سَيَّدنا المعبود المبارك.
نعم، إنه يليق بنا أن نغضب، وكلما تمكنت فينا محبة المسيح وصفات النبل والكرامة المسيحية الحقيقية، كثرت حالات غضبنا، وخاصة في هذه الأيام الأخيرة الصعبة. إنما ليكن هذا الغضب على مثال غضب المسيح.
فاغضب ما شئت يا عزيزي المؤمن، بشرط أن تكون مثله في غضبك.
فايز فؤاد

الخميس، 10 يوليو 2014

كيف ندرس الكتاب المقدس للاخ يوسف رياض

سنقدم في هذا الفصل بعض الأمور الهامة التى تفيد فى دراسة كلمة الله.
شروط أساسية للدراسة
1- الولادة الثانية
إنها مسألة جوهرية، فالذي لم يولد من فوق لا يستطيع أن يتمتع بما في قلـب الله من أفكار، ولا ما فى كلمته من كنوز. وحتى إذا درسها فإنه لن يفهمها لأن « الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله » (1كو2: 14). لقد قال المسيح « الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة »، كما قال أيضاً « المولود من الروح هو روح » (يو6: 63، 3: 6)؛ ولذلك لا يفهم كلام الله سوى المولود من الروح، لأن الذين لهم طبيعة متشابهة هم الذين يفهمون بعضهم.
وأوضح مثال لذلك هم اليهود الذين يملكون التوراة لكنهم لا يفهمون منها شيئاً. قال الرب على لسان النبي هوشع معاتباً شعبه « أكتب له كثرة شرائعي، فهي تحسب أجنبية » (هو8: 12،انظر أيضا إش29: 11،12). ولا زال البرقع موضوعاً على قلبهم كما قال الرسول بولس في 2كورنثوس3: 14، « لكن عندما يرجع إلى الرب يُرفع البرقع » (ع16). وهو مبدأ صحيح دائما سواء لليهود أو لغيرهم.
إننا طبعاً نشجع الشخص الذي لم يولد ثانية على قراءة الكلمة لأن فيها سيلتقي بالمسيح المخلص. لكنه إلى أن يؤمن بالمسيح ويتخذه مخلصاً شخصياً له فإنه لن يفهم أعماق هذه الكلمة.
2- الرغبة الجادة
يقول الحكيم « الرخاوة لا تمسك صيداً » (أم 12: 27). وهذا الأمر إنما هو أكثر وضوحاً فى التعامل مع الأمور الإلهية. لهذا قال الحكيم أيضاً « يا ابني إن قبلت كلامي وخبأت وصاياي عندك. (ثم يضيف) إن طلبتها كالفضة وبحثت عنها كالكنوز، فحينئذ تفهم مخافة الرب وتجد معرفة الله » (أم2: 1-6).
يطوّب المرنم فى المزمور الأول الرجل الذي « في ناموس الرب مسرته وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً » والكلمة "يلهج" تعنى يولع به و يلازمه. هذا ينبغي أن يكون موقفنا إزاء كلمة الله « بوصاياك ألهج» (مز119: 15 انظر أيضاً يش1: 8)، كما قال كاتب المزمور أيضاً « في طريق وصاياك أجرى » ( مز119: 32،60). وهو نفس ما حرّض المسيح مستمعيه عليه؛ لا أن يقرأوا الكتب المقدسة فحسب، بل قال لهم « فتشوا الكتب » (يو5: 39).
3- حياة التقوى والأمانة
لقد ذكر الرسول بولس أن الله يعلن أموره العجيبة للذين يحبونه (1كو2: 9،10) كما ذكـر المرنم أن « سر الرب لخائفيه » (مز25: 14). ولعلنا نلاحظ في الأناجيل أن الـرب لم يكن يشرح أسراره إلا لتلاميذه فقط، وأما للذين من خارج فكان يكلمهم دائماً بأمثال (مر4: 10،11).
والكتاب المقدس يعلمنا بكل وضوح أن الرب لا يعطينا نوراً جديداً في أموره ما لم نستفد أولاً من النور الذي وصل إلينا. قال الرب « إلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي » (إش66: 2). لذلك فإنه يمكننا أن نقول إن الطاعة هي أعظم شارح للكتاب؛ فالذي يطيع سيفهم المزيد « فإن من له (أي يقبل ويفهم ويحفظ) سيُعطى ويزاد » (مت13: 12).
نصائح عملية لدراسة كلمة الله
1- الدراسة اليومية (أم8: 34)
إن الإنسان كما يقولون، ابن عادته، فطوبى لمن تتملكه عادة دراسة الكتاب المقدس كل يوم إذ أنه لن يشعر بصعوبة في إيجاد وقت لهذه الدراسة. إن قراءة أصحاح والتأمل فيه لن يستغرقا أكثر من عشرين دقيقة فى اليوم، فاحذر من أن لا يكون فى برنامجك اليومي مثل هذا الوقت البسيط لله. يمتدح المؤرخ الإلهي في سفر الأعمال أهل ببيرية لأنهم كانوا يدرسون الكتب كل يوم، وكانوا يدرسونها بنشاط (أع17: 10، 11). هذا أمر هام حقاً.
2- الدراسة في الوقت الأفضل
إذا شعرت أن كلمة الله هي أعظم كنز فى حياتك، فلن يكون عسيراً أن تعطيها أفضل أوقات اليوم. والمسيح مثالنا يقول بروح النبوة « يوقظ كل صباح . يوقظ لي أذناً لأسمـع كالمتعلمين » (أش 50: 4). في العهد القديم كان التقاط المن يتم فى الصباح الباكر، قبل أن تحمى الشمس فيذوب (خر16: 21)، فلا تنتظر حتى تحمى شمس مشغولياتك، فيذوب منك وقت التأمل الهادئ في كلمة الله.
3- التأمل الهادئ
ليس تصفح الكتاب المقدس بأسلوب قراءة الجرائد هو الأسلوب المناسب لدراسته، بل يحتاج الأمر إلى تأمل هادئ فيه وتفكر بالقلب فى معانيه. هذا ما نراه بصورة رمزية فى شريعة البهائم الطاهرة (لا11) التى كان يشترط أن تجترّ طعامها؛ فما تأكله بسرعة تعيد مضغه مرة ثانية للاستفادة الكاملة منه.
4- الدراسة بروح الصلاة
سـواء الصلاة لفهم المكتوب (مز119: 18)، أو لإطاعته كما سنشير بعد قليل. قال القديس أغسطينـوس "لما كنت شاباً سعيت إلى فهم معني الأسفار المقدسة بقوة الإدراك العقلي وليس بالتوسل الخاشع لله . . . فأغلقت أمام نفسي بتشامخي وكبريائي الباب الموصل إلى الله، وبذلك فبدلاً من أن أقرع فيفتح لي، صار سعيي هذا سبباً في أن يغلق الباب أمامي".
وغالباً ما تُذكَر الصلاة في الكتاب المقدس ملازمة لقراءة الكلمة أو سماعها (أنظر لو10: 39 مع 11: 1، أف6: 17، 18، عب4: 16، يه 20، . . . إلخ)؛ فهما كجناحي الطائـر، ولن يمكنك أن تحلق في أجواء الشركة مع الله بدونهما معاً. الذي يدرس كثيراً فى الكتاب دون صلاة يكون عُرضة للكبرياء وبرودة القلب، فتصبح الحياة مثل « خبز ملّة لم يُقلَب » (هو 7: 8). ربما يكون قادراً على تفسير عباراته، لكن سينقصه إدراك الأفكار والمشاعر المباركة التى تنبعث منها. وليس مهماً بأيهما تبدأ؛ هل تصلي ثم تقرأ أم تقرأ ثم تصلى، وإن كان الأفضل أن تقرأ الكتاب في روح الصلاة، وأن تصلي بروح المكتوب.
5- تدريب القلب
فدراسة الكتاب ليست مجالاً لعمل الذهن فقط، بل بالأولى تدريب القلب « أمِل قلبي إلى شهاداتك لا إلى المكسب » (مز119: 36)، وهذا يتطلب أمرين على الأقـل: أولهما أن أطبق ما أتعلمه على نفسي « كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم » (يع1: 22)؛ فكل وعد إلهي أقرأه أتمسك به، وكل مثال للقداسة يلمع أمامي أثناء دراستي أطلب من الله أن أقتدي به، وكل حق أتعلمه من الكلمة أجعله يسيطر على قلبي. والأمر الثاني هو أن أبحث عن المسيح في كل جزء؛ فكما قال داربي "لا توجد كلمة فى كل الكتاب المقدس لا تحمل غذاء إلى نفوسنا، فادرس الكتاب المقدس بالصلاة، وأبحث فيه عن الرب لا عن العلم، ولابد أنك ستجد العلم أيضاً، إنما اجعل غرضك الرب".
6- حفظ أجزاء كتابية
تعوّد أن تضيف كل يوم إلى حصيلة الآيات التى تحفظها آية جديدة أو أكثر على قـدر وقتك ومقدرتك. وهذه النصيحة نوجهها بصفة خاصة لحديثي السن حيث لا تـزال الذاكرة قوية. كثير من رجال الله الشيوخ يقولون إن ما يحفظونه من آيات يرجع إلى باكورة حياتهم أي سن الطفولة والشباب. هذه الحصيلة من الآيات الكتابية ستكون أعظم بركة لحياتك ولتقدم خدمتك الروحية.
7- الدراسة بالقلم
بمعنى الاستعانة بالقلم لتدوين شواهد كتابية أو ملاحظات على هامش الصفحة، وكذا وضع علامات معينة على أجزاء كتابية لفتت انتباهك. فبالاختبار نحن كثيراً ما ننسى بعـض الشواهد التى لها ارتباط بفصل معين أو التوضيحات المفيدة في فهم النص. وسيلزمك في هذه الحالة اقتناء نسخة خاصة بك من الكتاب المقدس. وينصح البعض استخدام الألوان أيضاً للمساعدة في إبراز المعاني المختلفة في الكتاب؛ فمثلاً الخطية وما يمت إليها تلون أو يوضع تحتها خط باللون الأسود، والكفارة أو الفداء وما إليها باللون الأحمر، والرجاء و السماء . . . الخ باللون الأزرق، والسلام والرعاية باللون الأخضر . . . وهكذا. ويمكن أن يكون لك نوتة مذكرات خاصة تدون فيها ملاحظاتك الهامة على الفصل الكتابي. كانت هذه هي عادة رجـل الله داربي، وبعد رقاده طُبعت ملاحظاته التى سجلها في مذكرات خاصـة في أربعة مجلدات بعنوان "ملاحظات وتعليقات على الكتاب المقدس" لا زالت بركة لكثيرين.
مبادئ هامة لتفسير الكتاب المقدس
إن الوحي كُتِب ليُفهم. والله لم يقصد مطلقاً أن يكون الكتاب المقدس وقفاً على فئة من أصحاب العقول الجبارة أو الإمكانيات الفذة، على العكس كثيراً ما كانت الدراسات الفلسفية عائقاً على فهم الكتاب لا مساعداً له « لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك » (مت11: 25،26). وسنورد فيما يلي بعض المبادئ التي تساعد على تفسير الكتاب المقدس.
1- الكتاب المقدس كله لنا، ولو أن ليس كله عنا
فكثير من أقوال العهد القديم، بل وبعض الأقوال في الأناجيل ليست عنا، ولو أن كل الكتاب نافع للتعليم، وبالتالي كله كتب لأجل تعليمنا. فالممارسات الخاصة بالذبائح في سفر اللاويين لا تخصنا في معناها الحرفي المباشر، ولو أن ما أكثر التعاليم التي لنا فيها عندما نطبقها على المسيح. والتعبير الذي ورد في متى 24: 20 « صلوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت » ليس عنا، ولو أن لنا فيه تعاليم روحية مباركة. في هذا قال القديس أغسطينوس كلمات حكيمة "مَيِّز بين التدابير المختلفة، ينسجم الكتاب مع بعضه".
2- الكتاب المقدس يشرح نفسه
فأفضل شارح للكتاب المقدس هو الكتاب المقدس نفسه. فإذا تعذر عليك أن تفهم أي شئ في الكتاب المقدس؛ استمر في القراءة، وسرعان ما تجد أن ما استشكل عليك في البداية فهمه صار واضحاً ومفهوماً لديك. وفى هذا قال أحد الحكماء: "لا تدع شيئاً يسلب منك حقاً سبق لك أن فهمته بوضوح من كلمة الله، وانتظر بصبر أن تفهم باقي الآيات التي لا تقدر أن تفهمها". ثم هذا يتطلب منا درس كل الكتاب، لأن نصاً واحداً بخصوص أية حقيقة، لا يكفي أن يعلن لنا كل جـوانب هذه الحقيقة، فالآيات التي تتحدث عن موضوع متشابه، تفسر وتكمل إحداها الأخرى. كما قال المسيح للشيطان « مكتوب أيضاً » (مت4: 7).
3- لا تعارض في آيات الكتاب المقدس
لقد شبه أحدهم الكتاب المقدس بالكلمات المتقاطعة. فقد يطلب منك كلمة أفقية وتجد من السهل عليك أن تذكر أكثر من كلمة واحدة، ولنفترض أنك اقترحتكلمة من هذه الكلمات، ما الذي يجعلك متأكداً أن اقتراحك هذا صحيح؟ لو اتفق هذا الاقتراح مع باقي الكلمات الرأسية المتقاطعة مع كلمتك، فهذا دليل على أن اقتراحك كان صحيحاً، أما إذا لم يتفق فعليك أن تفكر من جديد في كلمة أخرى. هكذا الكتاب المقدس؛ ينبغي أن يتوافق كله مع بعضه، فإذا اقترحت تفسيراً للآية ووجدت أن هذا التفسير يصطدم مع آية أخرى في الكتاب فهذا دليل قاطع على أن هذا التفسير غير صحيح، فالتفسير الصحيح يجب أن يتوافق لا مع بعض تعاليم الكتاب، بل معها كلها. وبناء على هذه النظرية يمكننا أن نقول إن الآيات العسرة التي يصعب فهمها، يمكننا أن تفسرها في ضوء الآيات السهلة التي فهمتها.
4- النص والقرينة Text & Context
فالفصل الذي أُخذت منه الآية يلقى الضوء على الآية، بينما النصوص المبتورة يمكن أن توصلنا إلى أشر التعاليم. لا شك أن جماعة شهود يهوه الذين يدعمون تعاليمهم المضللة بآيات من الكتاب، يستشهدون بآيات مبتورة، ويتعاملون مع جانب واحد من الحق، إنهم ينظرون بعين واحدة إلى الكتاب. فلكي تفهم الكتاب يجب أن تلحظ القرينة للكلمة أو الآية؛ أعني ما قبلها وما بعدها، وكذلك الجو العام للأصحاح، لأن آيات الكتاب المقدس، كما أوضح بطرس، لا تُفهَم من تفسيرها الخاص بها بل يجب أن تكون متمشية مع الكتاب المقدس كله (انظر2بط 1: 20)
5- المعنى الحرفي والمعنى المجازى
إذا كان المعنى الحرفي المباشر والبسيط يستقيم مع باقي تعاليم الكتاب المقدس فلا تبحث عن معنى آخر، أما إذا اصطدم بآيات أخرى، أو لم يكن له معنى معقول مقبول، فإننا نأخذ المعنى المجازي لا الحرفي. فمثلاً قول يوحنا المعمدان عن الرب يسوع « هوذا حمل الله » (يو1: 29)، واضح أن تعبير الحمل هنا مجازي؛ بمعنى أنه الذبيحة المعينة من الله، والتي تناسب الله لرفع حالة الخطية والتشويش من هذا الكون. وكذلك الآية التي وردت في عظة الجبل والتي تقول « إن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك » (مت5: 29)، هذه الآية لا تُفهم حرفياً؛ لأن الكتاب يعلمنا أن نعتني بأجسادنا، ثم إنه لو قلعت عيني اليمنى سأنظر وأشتهي بعيني اليسرى، فالخطية منبعها القلب. أما التفسير الصحيح لذلك أننا نضحي بأغلى شئ ولو كان في غلاوة العين اليمنى، حتى لا نخسر الحياة الأبدية.
أما عندما يلزم أن نأخذ التفسير المجازى، فإننا نبحث عن نفس المجاز في باقي الكتاب المقدس، ولا سيما مبدأ الإشارة الأولى (الذى سنتكلم عنه فى النقطة التالية). فمثلاً كان الرب يقصد معنى مجازياً عندما حذر تلاميذه من خمير الصدوقيين والفريسيين. الكتاب المقدس كله يعتبر الخمير صورة للشر والخطية. وإذا أخذنا الإشارة الأولى للخمير في الكتاب المقدس، فإن الرب حذر الإسرائيلي من أن يأكل خروف الفصح إلا بعد أن يطهر الخمير من مساكنه (خر12: 15)، وهكذا.
6- قانون الإشارة الأولى
شّـبه بعضهم الكتاب المقدس بخزانة مملوءة بالأطعمة أو إن شئت بالكنوز، وأن المفتاح لهذه الخزانة هو على الباب. وعليه فإن الإشارة الأولى لأية كلمة في الكتاب المقدس يكون لها مدلولات قوية تساعد بعد ذلك على تحديد المعنى المقصود من هذه الكلمة في كل الكتاب. فإذا فهمنا جيداً هذا المبدأ كم يصبح سفر التكوين غنياً وثميناً لدارسي الكتاب، إذ سنجد فيه ما لا يحصى من الأفكار التي ترد في الكتاب لأول مرة. لقد دُعي هذا السفر بحق "مخزن بذار الكتاب المقدس".
7- قانون الإشارة المتكررة (الإعلان المتدرج):
فلا تكرار لمجرد التكرار في كلمة الله، فعندما يكرر الرب أية فكرة سبق ذكرها، فلابد أنه يريد أن يلقى ضوءاً جديداً على جانب لم يسبق أن أوضحه قبل ذلك، كقول إشعياء النبي « هنا قليل هناك قليل » (إش 28: 10). ولعل أوضح الأمثلة لذلك ما ورد في تكوين 1، 2 فلقد كرر الرب الإشارة إلى عملية خلق الإنسان في تكوين 2 وذكر عدة تفصيلات لم ترد في الفصل الأول.
أساليب الدراسة المختلفة للكتاب المقدس
1- أسلوب دراسة الأسفار
هذه أهم وأبسط طرق دراسة الكتاب المقدس وأكثرها انتشاراً، وننصح بها بالنسبة للمبتدئين فى الدراسة. وفى هذه الحالة يفضل الابتداء بالأسفار الأسهل فالأصعب. العهـد الجديد أولاً ثم القديم. ولكن بالنسبة للمتقدمين فى الدراسة ننصح أن تتم الدراسة بترتيب الأسفار، فنتفادى بذلك التركيز على أسفار بعينها على حساب إهمال أسفاراً أخرى.
وفى دراسـة الكتاب بهذه الطريقة هناك أسلوبان يكملان بعضهما ويطلق عليهما أحياناً "الدراسـة التليسكوبية" و "الدراسة الميكروسكوبية". فالتلسكوب هو ذاك الجهاز الذي يدهشنا بعظمة اتساع الكون الهائلة، بينما الميكروسكوب هو جهاز يدهشنا بدقة مكوناته المذهلة. هذان الأسلوبان يذكراننا برجلين لله في العهد القديم هما موسى ويشوع. الأول أخذه الرب فوق جبل نبو وأراه الأرض كلها دفعة واحدة (تث34)؛ لقـد شاهد منظر كل أرض كنعان من فوق، ولو أنه لم يسمح له بأن يمشى فيها. وما كان أجمل منظر الأرض البهية بالنسبة له! أما الشخصية الأخرى فهى شخصية يشوع بن نون. هذا الرجل سمح له الرب أن يسير في رحاب أرض عمانوئيل شبراً شبراً. لقد قال له الله في الأصحاح التالي لكلام الرب مع موسى « كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته » (يش1: 3). وهو ما تحقق فعلاً على عهد يشوع، لقد سار فيها برجليه، وامتلكها فعلاً.
هكذا تماماً كل من الدراسة التليسكوبية والدراسة الميكروسكوبية؛ في النوع الأول من الدراسة نحن نأخذ فكرة عن السفر دون الخوض فى تفاصيله الدقيقة. هذه النظرة للسفر يسميها البعض "نظرة عين الطائر"، ستعطيك مجالاً واسعاً ونظرة شاملة دون تعمق. فعن طريق قراءة السفر كله في جلسة واحدة، إن أمكن (وإن كان صغيراً تعاد قراءته عدة مرات)، ستفتح أمامك معاني لم تكن تحس بها من قبل، وستشعر بالرابطة الجميلة بين مفردات السفر التي لم تكن تلحظ العلاقة بينها.
من المهـم في هذه الدراسة أن تحاول معرفة الطابع العام للسفر، وكذا ملاحظة تكرار كلمـات بعينها فيه مثل: كلمة "الفرح" في رسالة فيلبى، أو "السلوك" في رسالة أفسس، أو "السيرة" في رسالتى بطرس، أو كلمة "أفضل" في رسالة العبرانين... وهكذا.
وقبل أن تترك هذه الدراسة اعرف من هو كاتب السفر، وفي أي زمن كتب، والظروف المحيطة به وقت كتابة السفر. فسيكون جميلاً عندما تلاحظ مثلاً أن رسالة فيلبي التي طابعها الفرح كتبها بولس وهو فى القيود مسجوناً!
وبعد هذه الدراسة يأتي دور الدراسة الميكروسكوبية، التى تنفذ إلى دقائق الموضوع؛ فيقسـم السفـر إلى أقسام، ثم الأصحاح إلى أقسام أصغر حتى نصل إلى الآية. بل الآية الواحدة نفسها نبدأ بمحاولة فهم كل كلمة منها.
وبعد أن تكون قد فهمت القصد من الآية، يمكنك أن تتأمل فى الكتاب المقدس لتعرف أين ترد التعاليم أو الأقوال المتشابهة، وما النور الجديد الذى حصلت عليه من هذا الفصل، فكما ذكرنـا قبلاً في مبادئ التفسير أنه لا يوجد في كلمة الله تكرار لمجرد التكرار، بل إن الله إذا كرر الكلام فى أى موضوع فإنما لإبراز جانب معين أو لإلقاء نور إضافي عليه.
2- أسلوب دراسة الموضوعات
هذه هي نفس الطريقة التي استخدمها ربنا يسوع مع تلميذي عمواس، عندما شرح لهما الأمور المختصة به فى جميع الكتب (لو24 : 27). هذه الدراسة تصلح للمتقدمين نسبياً فى كلمة الله. كأن تدرس مثلاً موضوع الصليب أو موضوع النعمة أو الكنيسة أو مجيء المسيح الثاني، أو الدينونة، فتتبعه في كل أسفار الكتاب المقدس. أو تدرس موضوع الصلاة فتتتبع رجال الله القديسين في صلواتهم من أول الكتاب إلى آخره، وكذا التحريضات الكتابية على الصلاة وما ورد عن نتائجها، وكذا شروطها ومعطلاتها... الخ. وما يقال عن الصلاة يقال أيضاً عن الصوم أو عن الخدمة أو عن التكريس. . . الخ.
تحت هذا العنوان نشير أيضاً إلى دراسة موضوعات رمزية جميلة؛ مثل خيمة الاجتماع أو هيكل سليمان أو الذبائح. . . الخ، لاستخلاص الدروس الروحية المستفادة منها. أو دراسة موضوعات عامة كالتدابير؛ أي طرق تعامل الله مع البشر على مر العصور، وكذا العهود المختلفة، أو معجزات المسيح أو أمثال المسيح وهكذا.
وستجد لذة خاصة عند دراستك لرحلات شعب الله من مصر إلى كنعان، وكذا رحلات بولس الرسول الواردة فى سفر الأعمال، وتاريخ الكنيسة النبوي (رؤ2، 3) وغيرها وغيرها.
3- أسلوب دراسة السير أو الشخصيات الكتابية
وهـذه الطريقة واضحة من اسمها، وفيها يتم دراسة كل ما ذكره الكتاب المقدس عن هذه الشخصية. ابحث عن معنى اسمه واكتشف مدى انطباق المعنى على حياته. حاول أيضاً أن تعرف في أي زمن عاش والظروف المحيطة به وأسماء معاصريه من الشخصيات البارزة، ومن ذلك ادرس التشابه الذي بين أيامه وأيامنا الحاضرة لاستخراج الدروس العملية بالنسبة لنا. حاول اكتشاف نواحي القوة في حياته ونواحي الضعف ومسبباته، وكذا في أي شئ يرمز للمسيح.
أعتقد أنه من الأفضل أن تبدأ بدراسة الشخصيات المعروفة كإبراهيم ويوسف وموسى وداود . . . الخ. وبعد ذلك الشخصيات الأقل انتشاراً في الكتاب المقدس مثل جدعون ويوناثان ويوشيا . . . حتى نصل إلى شخصيات حلوة لكن لم تشغل فى الكتاب سوى آيات قليلة مثل عكسة (قض 1) وياعيل (قض 4، 5) ويوناداب بن ركاب (2مل 10: 15، أر35) . . . الخ، أو مثل عنى بن صبعون (تك36: 24) أو رصفة بنت أية (2صم 21: 10، 11) أو حنينا رئيس القصر أيام نحميا (نح 7: 2) . . . الخ.
4- أسلوب دراسة الكتاب حسب فئات الناس حولنا
هذه الطريقة تصلح بصفة خاصة فى مجال العمل الفردي. وفيها تدرس كل ما يقوله الكتـاب المقدس لفئات الناس المختلفة؛ الآباء والأبناء، الأزواج والزوجات، وكذلك ما يصلح فى الكتاب للمتألمين، أو المرضى، والمضطهدين وأيضاً ما يناسب المتشككين أو اليائسين. وأيضاً ما يقوله الكتاب المقدس عن السكيرين والمستبيحين. وأيضاً المتهاونين والمؤجلين . . . وهكذا.
مساعدات أخرى لدراسة الكتاب المقدس
1- تعلم اللغات الأصلية للكتاب
إنه ليس ترفاً عديم القيمة أن تقرأ الكتاب المقدس باللغة التى كُتب فيها، فهناك كلمات فى اللغة الأصلية لا يوجد شبيه تام لها فى لغتنا العربية، وكلمات أخرى لها أكثر من معنى أو استخدام. فعلى سبيلالمثال كلمة "تاجر" في المثل السادس لملكوت السموات (متى13: 45)؛ جاءت فى الأصل اليوناني كلمة تعنى حرفياً "مسافر في مهمـة عمل" . ما أجمل أن تطبق هذا المعنى على المسيح الذي سافر من السماء إلى الأرض في مهمة ما أهمها! ثم كلمة "باع" المذكورة في نفس المثل تختلف فى الأصل اليوناني عن الكلمة المترجمة أيضاً "باع" في المثل الخامس (ع44)، التي تستخدم لمعاملات البيع والشراء العادية، أما الخاصة بمثل اللؤلؤة فهى تستخدم للبيع كعبد. ما أكثر البركة التى تجنيها عندما نتأمل فى هذه الأفكار؛ فهذا المسافر فى مهمة عمل، ضحى وأصبح عبداً إلى الأبد لأنه أحب الكنيسة (أف 5: 25). لقد أصاب مؤلف كتاب "بعض كنوز مخبأة فى العهد الجديد باللغة اليونانية" عندما قال "أعتقد أنه ليس قبل أن نصل إلى بيتنا السماوي سيمكننا أن نعرف حجم الخسارة التى تكبدناها بإهمالنا العهد الجديد اليوناني".
وفى حالة تعذر تعلم العبري واليوناني، يمكن الاستعاضة عن ذلك بالاستعانة بترجمات أخرى للكتاب المقدس. وبالنسبة لمن لا يعرف سوى اللغة العربية ينصح بالكتاب المقدس ذي الشواهد، والترجمة التفسيرية.
2- الاستعانة بقواميس وفهارس الكتاب المقدس
فالقـواميس تسهل عليك معرفة المعاني الغامضة للكلمات، وكذا معاني الكلمات والأسماء الأعجمية، أما الفهارس فإنها توفر عليك الوقت الطويل فى البحث عن الآية المطلوبة، كما تعطيك أماكن تواجد نظائرها فى الكتاب المقدس مما يفتح أمامك متسعاً للبحث والتأمل.
3- الشروحات والتفاسير
إننا نتذكر هنا نصيحة بوعز لراعوث لما قال لها « إذا عطشت فاذهبي إلى الآنية واشربي مما استقاه الغلمان » (را 2: 9). فلقد كان للغلمان طاقة أكبر مما لراعوث فى استخراج الماء من البئر العميقة. هكذا أيضاً يوجد رجال لله زودهم الرب بمواهب فذة، استطاعوا فهم كلمة الله بصورة واسعة. ونحن نشكر الرب عليهم لأن المواهـب التى أعطاها الرب؛ رأس الجسد، هي « لأجل تكميل القديسين، لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح » (أف 4: 11، 12)، وهم بما سجلوه فى كتب صـاروا بـركة للأجيال. والمكتبات اليوم عامرة بعصارة جهدهم وطاقتهم وبحوثهم فى هذه الكلمة.
وإن لنـا من المثال الموحى به فى 2تيموثاوس 4: 13 تشجيعاً إلهياً على قراءة هذه الشروحات. ولو أننا نريد أن نحذر هنا بقوة من خطر الانصراف بقراءة هذه الشـروحات عن قراءة كلمة الله نفسها. هذه بلا شك عادة سيئة، فالكتاب المقدس يجب أن يأخذ المجال الأول في قراءاتنا. وإذا أردنا أن نعقد مقارنة بين تعلم الحق من قراءة الكتاب المقدس مباشرة وبين تعلمه من قراءة الشروحات؛ فإنه يمكن القول إن الكتب الروحية تعطى مجالاً أوسع لفهم الحق، والقراءة المباشرة للكتاب تعطى عمقاً أكبر فى تقدير الحق. الأولى تعطى كمية أكبر والثانية تعطى تدريباً أكبر. فإن جمعنا بين الأمرين فنعما نفعل.
4- الاجتماعات الروحية والجلسات
فعن طريق حضور الاجتماعات باسم الرب، لا سيما اجتماعات درس الكتاب، ينمو القديسون فى إدراك الكلمة. كما أن جلسات الأحباء معاً، إذا قُضيت فى الأسئلة الروحية والتأمل فى الكلمة، تعود على الإخوة بالنفع الكثير « وأنتم متأصلون ومتأسسون فى المحبة حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو » (أف 3: 18). لم يتعمق الإخوة في أول عهدهم فى فهم كلمة الله إلا عن طريق هذه الاجتماعات الروحية، والجلسات الحبية.
ليت الرب المُقام، الذي جاء إلى تلاميذه عشية يوم القيامة وفتح ذهنهم ليفهموا الكتب، يفعل نفس الشئ معنا نحن أيضاً. وليته يعطينا القلب الملتهب ليزداد حبنا وشغفنا بمن هو موضوع الكتاب. وليت الرب يهبنا الذهن الواعي والقلب المدَّرب والحياة المتجاوبة. وحقاً أن تفتح كتابك، ثم تفتح قلبك للكتاب، ثم تفتح فمك طالباً من الله أن تسلك بموجب ما قرأت فهذا مفتاح للأمان واليقين والبهجة.

اهمية القراءة في كلمة الله للاخ يوسف رياض

النفس الخالدة، التي قدّرها المسيح بأنها أثمن من العالم كله (مت16: 26)، من الذي يخبر عن مصيرها الأبدي، عما ينتظرها بعد القبر، إلا الله في الكتاب المقدس؟ فالكتاب المقدس يحتوي على فكر الله، وحالة الإنسان، وطريق الخلاص، ومكافأة القديسين، وهلاك الخطاة.
ما أسعد بني البشر بهذا الكتاب. فلقد تنازل الله بنفسه ليرينا الطريق إلى السماء، وكتبه لنا في الكتاب المقدس. لكن يا للعجب، فلقد نجح الشيطان في أن يصرف أذهان الناس عن هذا الكتاب الذي قال عنه القديس أغسطينوس بحق إنه الميقظ لمن خدرتهم الآثام! وقديماً قال المسيح لجماعة من اليهود « أليس لهذا تضلون إذ لا تعرفون الكتب » (مر12: 24) كم تنطبق هذه الكلمات اليوم على أُنـاس كثيرين ألقوا كلام الله خلفهم (مز50: 17)، وبدلاً من أن يقبلوا بوداعة الكلمة المغروسة القادرة أن تخلص نفوسهم (يع1: 21)، فإنهم أفسحوا المجال للشيطـان في حياتهـم، فجاءت طيور السماء وخطفت الكلمة المزروعة في قلوبهم! (مت13: 4، 19).
وكلمة الله ليست فقط المرشد في رحلتنا للأبدية، بل إنها تعطي المؤهلات الإلهية لهذه الأبدية؛ إذ بها تولد النفس الولادة الثانية (إش55: 10، 11، يو3: 5، يع1: 18، 1بط1: 23)، وبها تتحكم للخلاص (2تى3: 15)، وبها يتغير مسار الإنسان (مز19: 7) وبدون ذلك لا يمكن لأحد أن يرى أو يدخل ملكوت الله.
الكلمـة تكشف للنفس حقيقة حالتها وخرابها، فتقودها إلى إدانة الذات والاعتراف بالخطايا في محضر الله . وإذ تتم الولادة الجديدة تنال النفس الحياة الأبدية.
لعل بعضاً منا قرأ قصة نهضة الإصلاح بقيادة القديس لوثر، وكيف أنها اشتعلت في داخله بواسطة آية واحدة صغيرة هي « البار بالإيمان يحيا » (رو1: 17). هذه الآية الواحدة غيرت التاريخ والجغرافيا في العالم، بل وغيرت حياة الملايين أيضاً!
يقول الرسول بولس «إذاً الإيمان بالخبر، والخبر بكلمة الله» (رو10: 17). فكلمة الله تحمـل إلينا الخبر الطيب من أرض بعيدة؛ من السماء. هذا الخبر الذى هو مياه بـاردة لنفس عطشانة. وهنا نحن نتذكر كلمات يوحنا بنيان الإنجليزي مؤلف الكتاب الشهير "سياحة المسيحي" إذ قال: "يوجد رجاء لأعظم خاطئ يقرأ الكتاب المقدس، ويوجد خطر على أعظـم قديس يُهمل قراءة الكتاب المقدس". الكتب الأخرى قد تُسِر الذهن، لكن الكتاب المقدس وحده هو الذى يريح الضمير. فليس سوى كلمة الله تحدثنا عن محبة الله العجيبة، الشافية للإنسان من كل أدوائه، فليس عجيباً أن نسمع جون وسلى يقول "لقد تنازل الله بنفسه ليرينا الطريق إلى السماء وكتبه في كتاب... آه أعطني ذلك الكتاب؛ أعطني كتاب الله ذاك بأي ثمن".
****
لكننا نتذكـر هنا كلام أحد الحكماء قال: لو أن قصد الله من الكتاب المقدس هو أن يكون مجـرد دليل للطريق إلى السماء، إذاً لكان كتاب أصغر حجماً منه كافياً لهذا الغرض. لكن بين أيدينا كتاب ما أنفعه لنا كما سنوضح الآن.
فالنفس التي نالت الحياة بالكلمة، تصبح هذه الكلمة لها غذاء الحياة الجديدة. هذه الحياة التي ليس لها من طعـام أو شراب سوى المسيح كما هو مُعلن فى الكتاب المقدس (مز1: 2، 3).
ويشبه الرسول بطرس الشهية إلى الكلمة، والتي يجب أن تميز المؤمن فيقول « وكأطفال مولودين الآن اشتهوا ( لبن الكلمة ) العقلي العديم الغش لكى تنموا به» (1بط 2: 2). إن الطفل المولود حديثاً لو قُدِمت له كل ثروات الأرض، فإنها لا تغنيه بديلاً عن لبن أمه. هكذا يجب أن تكون أشواقنا لكلمة الله لكى نتغذى بها. لكن الكلمة ذاتها ليست فقط لبناً يناسب الأطفال روحياً، بل إنها أيضاً خبز وطعام يناسـب البالغين (مت4: 4، عب5: 12 ـ 14). إن سِر الضعف لمؤمنين كثيرين في هذه الأيام هو عدم التغذى المستمر بكلمة الله. فكم ساعة يقضيها المؤمنون فى تنـاول الطعام العادي، وكم ساعة يصرفونها في تناول كلمة الله. إن الإجابة الصادقة على هذا السؤال تكشف سر ضعف الحياة الروحية لمؤمنين كثيرين يكتفون بالقراءة السطحية للكتاب المقدس. أين نحن من أيوب الذى قال « أكثر من فـريضتي (قوتي اليومي) ذخرت كلام فيه » (أى23: 12)، وهكذا أيضاً كتب يوحنا الرسول للأحداث لأنهم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيهم (1يو 2: 14).
وكلمـة الله لا تسد الحاجة فحسب، بل إنها تمتع وتلذذ. فهي ليست غذاء عادياً فقط بل غذاء حلواً؛ فنقرأ أنها «أحلى من العسل وقطر الشهاد» (مز 19: 10) نعم فهي تمنح للنفس نشاطاً (1صم 14 : 29 و إش 50: 4)، وللفم حلاوة (أم16: 24 مع رؤ10: 10) أكثر ممـا يستطيع العسل أن يفعله. لذا فقد قال إرميا « وُجد كلامك فأكلته فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي » (إر 15: 16).
كلمة الله أيضاً هي نور للمؤمن « سراج لرجلي كلامك، ونور لسبيلي » (119: 105). إن الحيـاة مظلمة لكثيرين، لكن الكتاب المقدس يملأها بالنور « أنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل » (2تى1: 10). وفي عالم تكتنفه الظلمة الروحية ويسوده الشيطان سلطان الظلمة، فإن خير دليل لنا هو كلمة الله. يسميها المرنم « أهل مشورتي » (مز119: 24)، فنحن ليس لنا مصدر نستمد منه الحكم الصحيح على أى أمـر من الأمور سوى « ماذا يقول الكتاب » (رو 4: 3). والرب أوصـى يشوع أن يتمسك تماماً للعمل بهذه الكلمة، لكى يُصلح طريقه ويُفلح (يش 1: 7، 8).
ولا توجد كلمة واحدة في كتاب الله إلا وتحمل لنا تعليماً وبركة. وما يبدو للبعض أنه غير ضروري هو نافع للبعض الآخر. هناك قصة طريفة تُحكَى عن ذلك عندما سُئِل رجل الله داربي مرة: أية خسارة كانت ستحدث لو أن الوحي لم يسجل الآية الواردة في 2تيموثاوس 4: 13 بخصوص الكتب والرقوق؟ أجاب داربي أنه هو على الأقـل كان سيخسر كثيراً. لأنه في أيام نسكه، عندما كان كاهناً في الكنيسة الأنجليكانية، فكر أن يتخلص من مكتبته، لكن اهتمام بولس بالكتب منعه من ذلك. ونحن نعرف أنه ليس داربي وحده استفاد من هذه المكتبة، بل مئات الآلاف من الذين قرأوا له بعد ذلك، في مختلف بقاع الأرض.
ومن فوائد كلمة الله أنها تطهـر الحياة، وتحفظها من كل ما يغاير إرادة الله فينا (يو 17: 17)، وهى توصف فى مزمور 19: 8 بأنها « طاهرة». والواقع إن الشخص متى كان تحـت تأثير الكتاب المقدس لا يمكنه أن يحتضن في نفس الوقت تخيـلات أو أفكـاراً دنسة، ولا عجب فالكتاب يسمى "الكتاب المقدس" وحسناً قيل: إنك إن قرأت الكتاب المقدس سيحفظك من الخطية، وإلا فإن الخطية هي التي ستحفظك (أي تبعدك) من هذا الكتاب.
يقول المرنم « بم يزكى الشاب طريقه؟ (والإجابة) بحفظه إياه حسب كلامك » (مز119: 9). إنها ماء ينظف الحياة ويقول الرب يسوع لتلاميذه «أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذى كلمتكم به» (يو 15: 3).
وكلمة الله ليست فقط تحفظ الحياة طاهرة (1يو 2: 1)، بل إنها التي يستخدمها الرب يسوع أيضاً فى خدمته الشفاعية لرد شركتنا عندما نخطئ (يو 13: 3-7، أف 5: 26 ).
ثم إن النفوس المنحنية والقلوب المنزعجة، ما هو علاجها؟ يقول الحكيم « الغـم في قلب الرجل يحنيه والكلمة الطيبة تفرحه » (أم12: 25)، كم من المرات أرسل الرب إلينا هذه الكلمة المفرحة لتعزيتنا عند المرض، ولتشجيعنا وقت الخطر. قال هيجـل فيلسوف الألمان "إن الكتاب المقدس كان لي وقت مرضى خير معزٍ". كما قال أيضاً هنري فان دايك "إننا في الكتاب المقدس نجد مشورة صالحة ساعة الحيرة والتجربة، وتشجيعاً قوياً ساعة الخطر، واصطباراً جميلاً ساعة الشدة، وتعزية سماوية ساعة الألم والحزن".
ثم إن الـرب يستخدمه معنا لإرشادنا ساعة التجربة، ولتعضيدنا أثناء الشدة؛ فهو يعـرف أن يغيث المعيىَ بكلمة (إش50: 4). أثناء الحرب العالمية الثانية، وفى وقت الفراغ لأحد عمال اللاسلكي الذين كانوا يعملون على إحدى القطع البحرية أرسل بواسطة جهازه كلمات المزمور الثالث والعشرين والتي مطلعها « الرب راعى فلا يعوزني شئ »، وعندمـا أرسل آخر كلمة فى المزمور تلقى 15 رداً يقول "آمين" . لقد كانت الكلمة لهم ملجأ وسلوى وسط الخطر.
وفى ظروف الحزن أين نجد تعزيتنا ؟ « عزوا بعضكم بعضاً بهذا الكلام » (1تس4: 15، 18). كم تكون النفس فى هذه الظروف مستعدة بترحاب لسماع كلمة الله أكثـر من أى شئ آخر. ينتهي كلام العلماء وينخفض ضجيج المتفلسفين، ويفسح المجال لما « كُتِب لأجل تعليمنا حتى بالصبر والتعزية بما فى الكتب يكون لنا رجاء » (رو 15: 4).
وكلمـة الله أيضاً سيف (أف 6: 17). ففي حروبنا مع الشيطان حسبنا أن نتبع مثـال المسيـح عندما كان يجرب من إبليس. قال أحد المؤمنين من أمريكا إنه مرة هاجمه الشيطـان بتجربة وظل يحاربه لعدة ساعات، ولم يجد أية وسيلة تبعد عنه الشيطان، رغم صلاته إلى الرب. عندئذ تذكر هذا الأخ ما فعله الرب يسوع فى ساعة التجربة، من ثم قال « اذهب عنى يا شيطان لأنه مكتوب . . .»، وقال الآية المناسبة لحالته بصوت مرتفع. يذكر الأخ أنه في الحال انفك عنه المُضايق، وانتهت التجربة. ومن وقتها - كما يقول ذلك الأخ - اعتاد الانتصار على الشيطـان بهذه الطريقة، وأدراك معنى القول « قاوموا إبليس فيهرب منكم» (يع 4: 7، أنظر أيضاً 1يو2: 13، 14).
وليس فقط حروبنا مع الشيطان بل أيضاً مع العالم؛ مع الإنسان. فهكذا كان يفعل سيدنا أيضاً (يو10: 31 ـ 36). ذكر الأخ هايكوب أحد خدام الرب من هولندا هذه الحادثة أيضاً التى حدثت معه فى بدء حياته الروحية، عندما كان يقوم بتوزيع نبـذ خلاصية فى قطار، فابتدأ أحد المسافرين، وكان ملحداً، يحاوره فى أمر الإيمان المسيحي. عندئذٍ فتح الأخ هايكوب كتابه المقدس وقرأ آية ترد على اعتراض ذلك الملحد. ولما فعل ذلك مرتين أو ثلاثة أجابه الملحد باحتداد: إنني أناقشك أنت ولا أناقـش الكتاب المقدس. فأجابه الأخ هايكوب بهدوء "ولكن الكتاب المقدس وليس أنا هو الذي يستطيع أن يرد عليك". ولما كرر هذا الأمر أيضاً مرة أو مرتين، انصرف الرجلعنه وأخذ يقرأ في كتابكان معه، إذ شعر أنه لا يستطيع أن يقاوم كلمة الله.
« لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته » (عب4: 12).
* * * *
ثم إن لكلمة الله أهمية خاصة بالنسبة لخادم المسيح. فهذه الكلمة لن ترجع فارغة أبداً (إش55: 11)؛ سواء قدرها الإنسان أو رفضها (تث18: 18، حز2: 4،5). لكن الويل كل الويل لمن يرفضها أو يحتقر رسالتها (يو12: 48، 15: 22).
وهنا نشير إلى آخر رسالة كتبها الرسول بولس وهي رسالته الثانية لتيموثاوس؛ رسـالة الأيام الأخيرة، التي فيها تركيز واضح على كلمة الله. ففي كل أصحاح من أصحاحاتها الأربعة نجد تعليماً جميلاً عن قيمة هذه الكلمة.
ففي أصحاح 1 : نجد التمسك المطلق بالكلمة (ع13).
وفى أصحاح 2 : نجد الدراسة المجتهدة للكلمة (ع15).
وفى أصحاح 3 : نجد الإعداد العجيب للكلمة (ع 16،17).
وفى أصحاح 4 : الكرازة المستمرة بالكلمة (ع2).
إن حـاجة البشر الأولى هي كلمة الله. ويخطئ كثيراً من يخدم إذا قدم للنفوس أى طعـام آخر، إذا جعل قوام الخدمة ما يقوله الفلاسفة أو الشعراء، أو إذا نسجها من ذاته وجعلها تدور حول نفسه كما يفعل العنكبوت. إننا إذا تتبعنا الرسل فى كرازتهم نجد أن المادة الرئيسية في خدماتهم كانت هي كلمة الله (أع 2: 16، 25، 34 و 17: 2، 11 و 1كو 15: 1-4) بـل إن أعظم كارز، وهو الرب يسوع، مع أنه هو نفسه الذى أوحى بالكلمة فإنه كالقدوة لنا استخدم هذه الكلمة عينها فى كرازته (لو 4: 16-21).
وهناك أمران هامان نضعهما أمام من يخدم النفوس عند دراسته لكلمة الله:
أولاً: لا تكن مجرد ناقل. اشبع أولاً بالكلمة واجعلها تتغلغل فى حياتك فانه « من فضلة القلب يتكلم الفم ». كثيرون يدرسون الكتاب لكى يعدّوا عظة، لكن من الأفضل جداً أن تـدع كلمة الله تبنيك أولاً وتعلمك (أنظر إش50: 4). طبِّق الحق على ضميرك ومارسه قبل أن تعلم به "إنها بشاعة وخيانة للحق أن يتاجر أحد بالحق الذى لا يشعر بسلطانه على ضميره شخصياً".
ثانياً: ادرس الكتاب كله، لا أجزاء بعينها فقط. فأنت لا تعلم نوع المرضى الذين ستتعامل معهم، ولا أي جـزء من كلمة الله يناسبهم ويريد الروح القدس أن يقدمه لهم. فنبوة عاموس مثلاً، هذه النبوة الصغيرة، التى ربما تكون مهملة من مؤمنيـن كثيريـن، استخدمها الروح القدوس في مناسبتين من أخطر المناسبات على الإطلاق لتوضيح فكره وتبليغ رسالته؛ أولاً بواسطة استفانوس (أع7)، ثم بواسطـة يعقوب (أع 15). ولولا إلمامهما بكل ما في الكتاب المقدس لما أمكن لروح الله أن يستخدمهما في هاتين المناسبتين لإعلان فكره.
****
بقيت ملاحظة أخيرة عن أهمية كلمة الله بالنسبة لجماعة المؤمنين؛ الكنيسة التي من امتيازها وفي نفس الوقت مسئوليتها أن تكون « عمود الحق وقاعدته » (1تى 3: 15)؛ أى شاهدة له. لكن الشيطان هاجمها من الداخل ومن الخارج ليحولها عن هذه الحالة المباركة.
أيـن الملجأ؟ يقول بولس لقسوس كنيسة أفسس، شاعراً بالخطر الذى كان على وشك أن تظهر آثاره المدمرة بينهم « الآن أستودعكم يا إخوتي لله ولكلمة نعمته القادرة أن تبنيكم وتعطيكم ميراثاً مع جميع المقدسين » (أع20: 32).
وإننا لو تتبعنا التاريخ، سنجد أن كل نهضة حقيقية حدثت بين شعب الله كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالرجوع إلى كلمة الله والتمسك بها والأمانة لها. هذا ما حدث فى النهضة المباركة أيام يوشيا (2أخ34: 19، 30، 31 و 35: 6، 12، 13 ..) وكذا أيام عزرا ونحميا (عز 3: 2، 4 و 5: 1، 2 و 6: 18 و 7: 6، 10 و 9: 4 و 10: 3 و نح 8 و 9 و10: 29، 34، 36 و 13: 1-3...). وفي المسيحية أَلم تكـن أعظـم خطوة للإصلاح العظيم في أول القرن السادس عشر هي الرجوع إلى كلمة الله باعتبارها السلطة الأعلى. ولما تحولت نهضة الإصلاح إلى برودة البروتستانتية بأنظمتهـا الجافـة والميتة، أو بالحري لما تحول التمسك بكلمة الله إلى تمسك كل جماعة بعقائدها، فإن الرب في رحمته رتب نهضة مباركة أخرى في أوائل القـرن التاسـع عشر ميزتها تلك الكلمات المباركة التى قالها الرب لملاك كنيسة فيلادلفيا ممتدحاً إياه « حفظت كلمتي ولم تنكر اسمي » (رؤ 3: 8).
وإن كانت المسيحية كمجموع قد انحرفت اليوم عن الكتاب المقدس كالسلطة العليا، كما يـدل على ذلك هذا العدد الهائل من الطوائف والمذاهب المتعددة ، إلا أن المطلوب من كل جماعة أمينة تريد نهضة حقيقية أن ترجع من جديد إلى كلمة الله. أما إذا لم تكن الجماعـة أمينة فى ذلك، عندئذ تبرز أمانة الفرد. فالمؤمن على أي حال مُطـالَب أن يستمع ليس إلى ما تقوله الكنيسة له، بل بالحري إلى « ما يقوله الروح للكنائس » (رؤ 2، 3).
* * * *
هذه هي أهمية قراءة كلمة الله. فأي كتاب آخر يُسكّن روع الخاطئ من هول الحساب، وأي كتاب آخر يستميل القلب لمحبة الله، وأي منها يحث الإنسان على طهارة القلب والحياة، ويُعدّه لسماء مقدسة لا تدخلها الشهوات، ولا تحوم حولها الأدناس، ويسكن فيها الذين أحبهم المسيح وقد غسلهم من خطاياهم بدمه وجعلهم ملوكا وكهنة لله أبيه، نعم أي كتاب آخر يفعل كل ذلك وأكثر كما يفعل الكتاب المقدس؟!
في كلمات قليلة نقول إن هذه الكلمة الإلهية:
بها ننمو1بط2: 2
بها نبنى أع20: 32
بها نتغير 2كو3: 18
بها نغلب أف6: 17، 1يو2: 14، مت4: 1-10
بها ننتعش مز119: 50، تث32: 2
بها نتنقى يو15: 3، أف5: 26، مز119: 11،25،50
بها نرتشد مز119: 105، 24، أم6: 20-23، 2بط1: 19
بها نصلي دا9: 2،3، 1يو5: 14، يو15: 7
بها نُرضي الله 1مل18: 36
حقاً ما أعظم البركات التى يمكن أن تجنيها النفس من هذه الكلمة. قال السياسي والفيلسوف الأمريكي بنيامين فرانكلين (1706- 1790) " أيها الشاب نصيحتي إليك أن تربى في نفسـك المعرفة بالكتاب المقدس والإيمان الثابت فيه، فإن ذلك سيعود عليك بالربح الأكيد".
لـذلك أدعوك أنا أيضاً مستخدماً كلمات كاتب مسيحي غير معروف أن تقرأ هذا الكتاب الذي يحوي النور الذي يهديك، والطعام الذي يقويك، والبلسان الذي يعالجـك، والعزاء الذي يشجعك. هذا الكتاب الذى هو للمؤمن خريطة المسافر، وعصا الرحال، وبوصلة الملاح، وسيف المحارب، ودستور المسيحي. إنه حقاً نهر ملذات، ومنجم كنوز، وفردوس أمجاد. فاقـرأه إذاً لتكون حكيماً، أطعه لتعيش قديساً، احفظه فيحفظك.
وعندما تمضى رحلة العمر، فأي شئ سوف يبقى لنا من عالم السراب والغرور سوى ما حصلناه من هذه الكلمة؛ فلقد قال المسيح « اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية » (يو6 : 27).

بعض الطعون والرد عليها للاخ يوسف رياض

لي قبل الدخول في سرد بعض الطعون عدة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: عن الكيفية التي ينبغي أن نتصرف بها عندما نواجَه بمن يطعنون في كلمة الله، ويتهكمون بازدراء عليها، ناسبين إليها أخطاء ليست في الكلمـة بل في عقولهم هم. من الناحية الواحدة، لا ينبغي أن نسكت، فالسكوت في هذه الحالة جبن وخيانة للحق. والله لم يعطنا روح الفشل (أي التراجـع والجبن)، بل روح القوة والمحبة والنصح (2تى 1: 7). ومن الناحية الأخـرى، لا يليق بنا الانفعال أو العصبية، بل علينا في ردنا لا أن نبين الحق فحسب؛ بل نبين أيضاً الروح المسيحية الحقة. ينبغي أن يكون ردّنا مقترناً أيضاً بروح الإشفاق علي أولئك الذين قد اقتنصهم الشيطان لإرادته فيفترون ويتطاولون علي الله وكتابه.
الملاحظة الثانية: إنـه لم يخطـر على بالي أن أفنّد كل الاعتراضات التي يقدمها غير المؤمنين على الكتاب المقدس، لأن هذا يستلزم مساحة أكبر مما يحتمله هذا الكتـاب، ولأنه لا نهاية لافتراءات العقل البشري السقيم. فحتى لو أجبنا على كـل الطعون المقدمة حالياً، فإنه ليس عسيراً أن يجد العقل طعونـاً جديدة. نعم، ليس لهؤلاء أكتب ما أكتبه الآن، بل إني أقدم الإيضاحات لفائدة محبي الحق.
الملاحظة الثالثة: من مناقشـاتي مع عدد من هؤلاء الطاعنين، اكتشفت أن معظمهم لم يقرأوا الكتـاب المقدس على الإطلاق. لقد قرأوا الكتب التي تطعن في الكتاب المقدس، فتمت فيهم كلمات الوحي « هؤلاء يفترون على ما لا يعلمون... ويل لهم » (يه10،11). ليت هؤلاء يكون عندهم الإخلاص الكافي الذي سيكافئهم الرب حتماً عليه لو بحثوا باتضاع وانتظار لله.
الملاحظة الرابعة: يقيناً هناك مشكلات ستقابلنا في الكتاب المقدس، فإن إعلاناً غير محدود إلى عقول محدودة لابد أن يصاحبه مشكلات لا نعرف الرد عليهـا. نحن لازلنا على الأرض، وإلى الآن لم نعلم كل العلم، ولا نحن نمتلك المعرفة الكاملة. ومع ذلك فالإيمان يثق تماماً في حكمة الله، كما أنه يقيناً لا توجد صعوبة لن يجد القلب المؤمن الإجابة المريحة لقلبه وذهنه عليها إن آجلاً أو عاجلاً.
الملاحظة الخامسة: الكتاب المقدس لا يحتاج إلى دفاعنا نحن. وعندما طلب واحد من الواعظ الإنجليزي الشهير سبرجون أن يدافع عن الكتاب المقدس أجابه سبرجون: ماذا تقول؟ أدافع أنا عن الكتاب المقدس؟ وهل يدافع أحد عن الأسد؟
نعم ليس دفاعاً عن الأسد نكتب هذا الآن، بل إشفاقاً على نفوس الذين عن عمد ينطحون الصخـر برؤوسهـم. أولئك الذين سوف تدميهم الجراح، ويظل الصخر كما هو، حاملاً آثار دماء من هشموا أنفسهم عليه.
والآن إلى بعض عينات من هذه الطعون.
أولا: عدم معرفة أسماء كتبة بعض الأسفار المقدسة على وجه اليقين
قال واحد "لأجل أن يكون الكتاب الديني حُجة يجب ... أن تكون نسبة الكتاب إلي الرسول الذي نُسب إليه ثابتة بالطريق القطعي ... من غير أى مظنة للانتحال"
الرد: سبق أن أوضحنـا في الفصلين الأول والثالث أن الكتاب المقدس ليس كتاباً دينياً بل هو كتاب الله، وكاتبه الحقيقي هو الله. وهذا ما شهد به الكتاب عن نفسه، وهذا ما تأكد لنا بالعديد من الأدلة والبراهين العقلانية كما رأينا في الفصول السابقة. وعليه فليس مهماً أن نعرف الواسطة التي استخدمها الله إذا كان الله لم يشأ أن يطلعنا على اسم من استخدمه، سيما وأن كلمة الله لا تستمد قيمتها من الإنسان الذي استخدمه الله، بل من الله ذاته.
لو أن القائـد العام أرسل إلى أحد جنرالاته رسالة، فإنه يكون لرسالته كل التقدير من هـذا الجنرال سـواء رأى القائد العام أن يرسلها عن طريق ضابط اتصال معروف أو عن طـريق جندي مراسلـة مجهول، طالما أن الرسالة ذاتها تحمل الدليل الذي لا يقبل الشك على أنها من القائد العام.
ثانيا: خطايا الأنبياء
هذه عينـة من إحدى الطعنات: "إن القراءة المتأنية (للتوراة) المتداولة لا يخرج منها القارئ بأنه أمام كتاب أوحى به الله. فالأنبياء، الذين تعارفنا على إجلالهم واحترامهم؛ نراهم في (التوراة) عصبة من الأشرار، سكيرين ولصوصاً وزناة وكذابين ومخادعين وقتلة".
نجيب على قائل هذا الكلام - بعد أن ندعو له برحمة الله - بما يلي :
1 - احترام الأنبياء: الأنبياء الذين ورد ذكرهم في الكتاب المقدس لم يكونوا عصبة من الأشرار، ولا كانوا كما وصفهم صاحبنا، بل لقد عاشوا حياة الأمانة لله بصورة واضحة، وأظهروا كثيراً من الصفات المباركة في سلوكهم. على أن الكتاب المقدس لا يعلّم أبداً أنهم معصومون، فلكل إنسان نقاط ضعفه ولا كمال إلا لله. وهذا يتمشى تماماً مع تعليم الكتاب المقدس « إن قلنا إننا لم نخطئ نجعله كاذباً وكلمته ليست فينا »(1 يو1: 10).
2 - الكتاب الصريح: الكتاب المقدس لم يُكتَب لتمجيد الإنسان، ولا هو يحض على عبادة البشر، ولهذا فلقد سجل حياتهم بكل أمانة، حتى أخطائهم. إن غرض كتاب الله الوحيد هو إعلان الله لنا؛ هذا الإله الذي مع أنه يكره الخطية لكنه يحب الإنسان الخاطئ. الله يحبنا وهو غير مخدوع فينا على الإطلاق. من فينا ينكر - إلا المرائي والمخادع - أن في حياة كل منا صفحات لو أن يد الله الأمينة سجلتها سيغطينا الخزي تماماً، وسيتضح أنه « لا فرق. إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله » (رو3 :22، 23).
3 - لا تشجيع على الخطية: مع أن الكتـاب المقدس سجل خطايا الأنبياء، لكنه لم يمدح الخطيـة، ولا وضعهـا في إطار جذاب، بل على العكس صور بشاعتها ودنسهـا وقبحها في عيني الله، كما صور أيضاً ما سببته الخطية من أحزان ومرائر على مرتكبيها حتى إنه بسببها ذُرِفت أسخن الدموع ندماً وتوبة. فما كان أصعب على نوح أن يستخدمه الله بالنطق باللعنة على ذريته ! وما كان أشد آلام داود وهو يحصد نتيجة خطيته المعروفة!
لقد أصاب أحدهم عندما قـال: "إن الطبيب ليس مسئولاً عن أمراض الناس التي يشخصها، هكـذا الكتاب أيضاً ليس مسئولاً عن الشر الذي يصفه. والجـراح يكشـف الجراح ويعريها قبل أن يتمكن من معالجتها علاجاً كاملاً، هكذا يفعل الكتاب المقدس أيضاً".
4 - لا يأس بسبب الخطية: قصد الله أن يلقى الضوء على هذه الخطايا لكي يحذرنا من السقوط في الخطية مهما سمونا روحياً، وأيضاً حتى إذا سقط واحد منـا ( ولا عذر لنا ) فلا يهوي مع سقطته هذه إلى بالوعة اليأس، فعند الله نعمة أعظم من أعظم الخطايا.
5 - دليل مؤيد لا معارض: أخيـراً أقول إن تسجيل هذه الخطايا لا يُسقط صفة الوحي عن الكتاب بل علـى العكس هو يدعمها. فلو لم يكن هذا الكتاب كتاب الله، لكان اليهود أنفسهم هم أول من بادر بإزالة كل ما يشوه تاريخهم وينسب النقص لأنبيائهم كعادة البشر في تمجيد أبطالهم.
ثالثا: القسوة الواضحة في العهد القديم
أوصى الله شعبه المرة تلو المرة - قبل دخولهم أرض كنعان - أن يقتلوا سكان الأرض كلهم، لا يستبقوا صغيراً ولا كبيراً، وأن لا تشفق أعينهم عليهم (أنظر تث 7: 1-3،24، يش 6: 16-21، عز 9: 11 ، 12 أنظر أيضاً 1صم 15: 3 ...الخ). ويقولـون هل كتاب يحوى هذا التحريض السافر على القتل بلا تمييز يكون هو كتاب الله ؟!
وللإجابة على ذلك نقول.
1- قبل أن يدخل الشعب أرض كنعان بأكثر من أربعمائة سنة كان الله قد وعد إبراهيم بأن يعطي الأرض لنسله، لكنه أوضح لإبراهيم أن ذنب الأموريين (سكان تلك الأرض) لم يكمل بعد (تك15: 16). فكون الله أطال أناته عليهم كل هذه القـرون، وكان يقدر أن يحرقهم مع سكان سدوم وعمورة
بنار وكبريت، فهذا دليل على أناة الله ورحمته لا قسوته.
2- كانت الحالة الأدبية لهذه الشعوب مريعة للغاية. فلقد فاقت وثنيتهم، والشرور المقترنة بهذه الوثنية كل تصور. في سفر اللاويين 18 يرسم الرب صورة بشعة لأحط الخطايا، ويقول إن شعوب تلك الأرض نجست أرضهم بها، فقذفتهم الأرض (لا18 :24 ،25). لهذا عندما تذكر المرنم بعد ذلك كيف قضى الرب على هذه الشعوب لم يقل لأن إلى الأبد نقمته، ولا حتى لأن إلى الأبد عدله، بل « لأن إلى الأبد رحمته » (مز136: 17-21). فلقد كان تخليص الأرض من هذه الشعوب مظهر رحمة من الرب، تماماً كما يفعل الجراح عند استئصال العضو المفسد، رحمة بالجسد!
3- ثم لحكمة إلهية قصد الرب أن يقوم شعبه بأنفسهم بممارسة القضاء الإلهي على هذه الشعوب، لكـي يتعلموا عملياً كراهية الرب للخطية، فلا يتمثلوا بهذه الشعوب في نجاستهم. لكن الذي حدث بالأسف هو أن الشعب تهاون في تنفيذ أمـر الرب الصريح، وأبقوا علي كثير من هذه الشعوب، بل وتعلموا منهم خطاياهم. ولعل سفر القضاة خير شاهد علي ما وصلت إليه حالة شعب الله من وثنية ونجاسة بسبب اختلاطهم بهذه الشعوب!
4- لكن الله ليس عنده محاباة. فكما طرد شعوب هذه الأراضي لشرهم وأسكن فيها شعبه، فإنه حذر شعبه أيضاً أنهم لو تنجسوا سيبيدون بدورهم عن الأرض لا محالـة (لا18: 28، 26: 27-33، أش1: 19، 20). وهذا عين ما حدث فعلاً وسُجِل بالفعل في العهد القديم الذي يحتفظ به اليهود أنفسهم. وعليه يكون هذا الاعتراض أيضاً مؤيداً لوحي الكتاب المقدس ومصدقاً عليه.
رابعاً: تناقض أقوال الكتاب المقدس
في كثير من أسفار الكتاب المقدس، لا سيما الأسفار التاريخية في العهد القديم، والأنـاجيل في العهـد الجديد، عندما يتكرر ذكر الحادث في أكثر من موضع يبدو للقارئ السطحي تناقض ظاهري بينها في الأعداد أو الأسماء أو مضمون الرواية؛ الأمر الذي اعتبره خصوم الكتاب أنه هزيمة حاسمة للكتاب المقدس.
قام واحد من هؤلاء الخصوم فعدد مائه وستة اختلافات بين الأناجيل وبعضها، وسنبين فيما يلي بعض عينات للاختلافات المزعومة والرد عليها.
قال هناك أوجه اختلاف ستة في نسب المسيح كما ورد في متى 1 وفي لوقا 3.
هذا ما قاله صاحب الطعـن. أما الحقيقة فتبدو رائعة للمتأمل المدقق، لأن المسيح بخلاف باقي البشر جميعاً له سلسلتان للنسب لا سلسلة واحدة؛ واحدة رسمية ترجعإلىيوسف الذي نُسب المسيح إليه، وواحدة فعلية ترجع إلى مريم التي منها فعـلاً، لا من يوسـف، ولد المسيح! فإنجيل متى يقدم سلسلة نسب المسيح الرسمية، أي عن طـريق يوسف الذي كان اليهود يظنون أنه أبو يسوع، وهو فعلاً كان أبـوه من الناحيـة الرسمية لا الفعلية كما نعلم، لأنه ولد بقوة الروح القدس بـدون زرع بشر (مت 16:1). أما لوقا فيقدم لنا السلسلة الفعلية، أى عن طريق مريم أم يسوع (لوقا23:3). ومرجع ذلك أن متى - كما سبق أن ذكرنا في الفصل السابع - يقدم لنا المسيح الملك « أين هو المولود ملك اليهود؟» (مت2:2)، أما في لوقا « القدوس المولود منك (أي من العذراء مريم) يدعي ابن الله » (لو1: 35). متى الذي يكتب لليهود، ويشير إلي المسيح في إنجيله تسع مرات بألقاب ملكية، يذكر سلسلة المسيح الرسمية عن طريق سليمان بن داود منتهياً بيوسـف رجل مريم، أما لوقا فيقدم سلسلـة نسـب المسيح عن طريق المطـوبة العذراء مريم التي منها جاء المسيح فعلاً مروراً بناثان بن داود. والملفت للنظر أن سلسلتي النسب؛ السلسلة الرسمية والسلسلة الفعلية تؤكدان أن يسوع هو «ابن داود»!
مثال آخر ما ذكره البشيرون عن تلك الحادثة التي فيها سكبت مريم قارورة الطيب علي قدمي يسوع ورأسه. فمتى ومرقس يذكران أنها سكبت الطيب علي رأسه (مت26: 7، مر14: 3) أما يوحنا فيقول إنها سكبت الطيب علي رجليه (يو12: 3). وواضـح إن ذكر الجزء لا ينفي الكل. ثم إن يوحنا أشار تلميحاً إلي كـلا الأمريـن (يو11: 2). أما لماذا انفرد يوحنا بذكر سكب الطيب على قدميه فلأن لهاتين القدمين بحسب ما أورده يوحنا، غلاوة خاصة علي قلب مريم. فبهما سار الرب معها وقت حزنها، قبل فترة وجيزة، حيث أقام لعازر أخاها من الأموات (يو11). لـذا ففي مناسبة إكرامه لأجل إقامته للعازر (يو12)، فإنها سكبت الطيب علي قدميه ومسحتهما بشعر رأسها. من الناحية الأخرى يتحدث إنجيل متى عنه كالملك، ومـرقس كالنبي. وكل من الملك والنبي كان يمسح بسكب الدهن علي رأسه. أما يوحنا الذي يتكلم عنه باعتباره ابن الله، ويبرز من الأول للآخر مجد وجلال هذا الشخص السماوي، الله الظاهر في الجسد، فلم يكن مناسباً أن يذكر سكب الطيب علي رأسه بل علي قدميه فقط!!
خامسا: عدم دقة الاقتباسات أو تطابقها
إن عدم تمسك الرسل بالاقتباس الدقيق من كلمة الله اعتبره البعض تقليلاً من قيمة الآيات الموحي بها التي لا يصح تحريفها قط. مما يبرهن - بحسب رأيهم - علي عدم وحي الكتاب، أو علي الأقل يؤيد زعم القائلين بالإعلان، لا الوحي اللفظي لكلمات الكتاب (راجع الفصل الثالث).
والرد علي ذلك أننا في أحيان كثيرة، في الكلام الشفهي أو التحريري، نعيد ذكر ما قلناه سابقاً بنفس المعنى مستخدمين عبارات مختلفة، ويكون ذلك بقصد توكيد الفكرة وتوضيحها. أما بالنسبة للكتاب المقدس فلا تحريف فيه علي الإطلاق، فكل من الأصل والاقتباس موحى به من الله، فالروح القدس هو صاحب الكلمة من الأول للآخـر، ولا يوجد مثله من يعلم المعنى الكامل لكلماته. فإذا أعاد صياغة كلامه بأسلـوب جديد ليعطي نوراً جديداً علي قول قديم، لم يكن الوقت قد حان بعد لإعلانه عند إعطاء القول الأصلي (أنظر يو16: 12، 13)، فهذا ليس تحريفاً في الكتاب المقدس. ومن الجميل أننا باتضاع واعتماد علي الروح القدس نحاول اكتشاف الكنوز العجيبة التي وراء كل اختلاف. وسنحاول الآن توضيح بعض الأمثلة كعينات:
نبدأ بمثال بسيط ورد في عبرانيين 2: 12 « أخبر باسمك اخوتي وفي وسط الكنيسة أسبحك ». هذا الاقتباس ورد من مزمور 22: 22 حيث ترد العبارة الأخيرة هناك « في وسـط الجماعة أسبحك ». ولا غرابة، فالكنيسة في العهد القديم كانت لا تزال سراً لم يتم إعلانه بعد، لكنه أُعلن في العهد الجديد للرسل والأنبياء (أف3: 3-10)
مثـال آخر ورد في 1كورنثوس 2 :9 « كما هو مكتوب ما لم ترعين ولم تسمـع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه ». ولقد أتى بولس بهذا الاقتباس من إشعياء 64: 4 حيث يقول « منذ الأزل لم يسمعوا ولم يصغوا. لم تر عين إلهاً غيرك يصنع لمن ينتظره ». والاختلاف بين الأصل والاقتباس واضح.
النص الأصلي يتكلم عن صلاح أفكار الله في معاملاته مع شعبه الأرضي (اليهود) هنا في الزمـان. فيقتبسها الرسول مطبِقاً إياها علي صلاح مقاصد النعمة السامية قبل الدهور نحو الكنيسة. واضح أن العهد القديم لا يتحدث عن الأزلية ولا عن الأبديـة ولا عن الكنيسة. إن مجاله هو الأرض والزمان. على أن قلب الله لم يتـغيّر. لذا فالرسول يقتبس مبدأ النعمة والصلاح في قلب الله ليطبقه على مدلول أبعد مما يحتمله العهد القديم. وكما اقتبس الرسول بولس من إشعياء 64 وأضفي على اقتباسه بعداً أزلياً، اقتبس أيضاً بطرس من إشعياء 65: 17 وأضفي علي اقتباسه (2بط3: 13) بعداً أبدياً. فالقول في إشعياء 65 يقتصر على وضع السماء والأرض المجيد في الملك الألفي، أما بطرس فيطبقه على الأبدية.
مثال آخر ورد في عبرانيين 10: 5 « ذبيحة وقربانا لم تُرِد ولكن هيأت لي جسداً ». هذه الأقوال مقتبسة من مزمور 40: 6. حيث يقول « بذبيحة وتقدمة لم تسر، أذنيّ فتحت. محـرقة وذبيحة خطية لم تطلب » ومن ذا الذي لا يلاحظ الفارق بين الاقتباس والنص الأصلي.
وكلمة فتحت المذكورة في مزمور 40 بحسب الأصل العبري تعني حرفياً "حفرت". وعملية الحفر ينشأ عنها شيء لم يكن له سابق وجود. ما هو الشيء الذي لم يكن له سابق وجـود بالنسبة لله؟ إنه الجسد* لذا كان مناسباً أن يذكر الروح القدس هذه العبـارة في العهد القديم بهذه الصورة، حيث لم يكن قد آن الأوان بعد لإعـلان هذا التجسد، بل كان مجرد وصية قبلها الابن من أبيه في الأزل « أذنيَّ فتحت ». لكن بعد أن تم التجسد واستعلن سر التقوى (1تي3: 16)، فإن الروح القدس أماط اللثام عما كان يقصده من هذه العبارة.
والمثال الأخير ورد في عبرانيين 10: 37 « لأنه بعد قليل جداً سيأتي الآتي ولا يبطئ » وهو مقتبس من نبوة حبقوق 2: 3 « إن توانت فانتظرها لأنها ستأتي إتياناً ولا تتأخر ». الكلام في حبقوق بالمؤنث لأنه يعود علي الرؤيا؛ أي منتهى آمال اليهودي التقـي، اقتبست في العبرانيين بالمذكر لأنها تعود على المسيح منتهى آمال المسيحي التقي. النصان موحى بهما من الله تماماً. لكن بينما في العهد القديم يحدثنا عن رجاء اليهودي، فإنه في العهد الجديد يحدثنا عن رجاء المسيحي. فرجاء اليهودي التقي هو مجيء المسيح إلى الأرض وتأسيس ملكوته السعيد وإخضاع كل الأعداء فتنعم الأرض بالبر والسلام والرخاء، أما المسيحي فإن له رجاء مختلفاً؛ هو شخص المسيح الآتي نفسه، فيأخذنا إليه حتى نكون كل حين معه.
سادساً : متفرقات
1) سفر أستير : المعضلـة أمام الذين يطعنون في وحي هذا السفر هي أن اسم الله لم يرد فيه ولا مرة. فكيف يكون سفـر من أسفار كلمة الله ولا يرد فيه اسم الله على الإطلاق!!
هذه المعضلة ليست جديدة. فيبدو أنه لما شرع اليهود في ترجمة هذا السفر إلى اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد كان كثيراً عليهم أن يتركوا السفر بهذه الصورة. ولهذا فقد قام أحدهم بكتابة أحد أسفار الأبوكريفا (انظر الفصل الثامن) هو تتمة سفر أستير، وفيه صلاة طويلة على فم مردخاي وأخرى أطول على فم أستير، وجـاء اسم الله في هذا السفر غير القانوني ما يزيد عن 40 مرة. لكن ما أبعد الفارق بين ما يكتبه الإنسان وما يكتبه الله!
إذاً فمن المؤكـد أنه لو كان للإنسان دخل أو اختيار في الموضوع، لما أمكنه أن يتجاهل اسم الله في السفر كله . فلماذا عندما أوحى الله بكتابة سفر أستير مُنِع الكاتب تماماً من أن يسجل أى صلاة أو أن يسجل اسم الله ولو مرة واحدة؟ للإجابة على هذا السؤال يلزم فهم جو السفر أولاً.
لقد كُتِب هذا السفر بعد حوادث هامة، تمت عندما أطلق كورش الفارسي نداء في كل مملكته ليرجع من يريد من اليهـود إلى أورشليم ليبنى بيت الرب. ولقد ورد هذا النداء في كتب الأنبياء وتسجل قبل حدوثه بفترة طويلة، لينال ختم المصادقـة الإلهية عليه. فلماذا ظل كثير من اليهود في فارس بعد أن فتح الرب لهم باب الرجوع؟ ليس من إجابة سوى أنهم استهانوا بهذا الباب المفتوح!
إذاً فأولئك اليهود الذين يحدثنا عنهم سفر أستير هم صورة للذين يرفضون خلاص الله المجاني. لا همَّ لهم سوى النجاح الزمني، أما الخلاص الأبدي فقلّما يشغل أفكارهم. ولأن الله مخلص جميع الناس (1تى 4: 10)، فهم بلا شك يتمتعون بخلاص من هذه الناحية؛ أي أنهم يتمتعون بعناية الله، لكن ليس لهم الله نفسه.
أو يمكن القول إنهم إذا كانوا يصورون المؤمنين، فإنما هم يصورون لنا المؤمنين العالميين الذين لا يهمهم سوى مصالحهم الخاصة، أما أمور الرب فآخِر ما يشغل بالهم. وهؤلاء مع أنهم يمتلكون خلاص الرب فعلاً، إلا أن الله نفسه يستحي أن يُدعَى إلههم، بخلاف الذين رجعوا لبناء البيت حسب مسرته (قارن عب11: 16).
ثم إن هناك معنى أبعد لصمت الله المتعمد هذا، فإن هؤلاء الباقين في أرض فارس هم صورة لليهود الذين رفضوا خلاص الله في المسيح لما جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله. وكان نتيجة عدم إيمانهم أنهم تشتتوا مرة ثانية بين الأمم (سنة 70 م). إلا أن عدم إيمانهم لا يمكـن أن يُنسى الله كلمته التي سبق أن قالها « أبارك مباركيـك ولاعنك ألعنه » (تك 12: 3)، فمع أن الله لا يعترف بهم علانية كشعب في الوقت الحالي إذ يُدعون "لوعمي"؛ أي لستم شعبي، لكنه يعتني بهم من خلف الستار.
ما أجمل أن ما يعلمنا إياه الله بالكلام، يعلمنا إياه أيضاً في أحيان أخرى بالصمت، دون أدنى تناقض!!
(2) سفر نشيد الأنشاد: إن المشكلة بالنسبة لهذا السفر أعقد؛ فهي ليست فقط خلو السفر من اسم الجلالة، بل هي موضوع السفر نفسه الذي سبّب لأذهان غير المؤمنين تشويشاً كبيراَ حتى قال أحدهم "إذا جئنا إلى نشيد الأنشاد فنحن أمام ملحمة شعرية عن الحب والجنس لا نفهم أي علاقة بينها وبين الدين"!!
أما دارس الكتاب المقدس فلا يخفي عليه أن الكتاب المقدس كثيراً ما يستخدم لغة البشر لتفهيمنا حقائق روحية سامية، وإلا لاستحال علينا أن نفهم أى شئ عن الله. فالكتاب المقدس مثلاً يقول « عينا الرب نحو الصديقين وأذناه إلى صراخهم » (مز 34 :15) دون أن يقصد - كما لا يخفي علينا جميعا - أن لله عينين أو أذنين؛ لأن « الله روح » (يو4: 24). كما أنه يحدثنا عن معاملات الله معنا بلغة بشرية نفهمها، فيقول إنه يقف بجانبنا كالأخ (أم 17: 17)، ويشفق علينا كالأب (مز 103: 13، ملا3: 17)، ويعزينا كالأم (إش66: 13،49: 15)؛ لهذا فليس عجيباً أن يرسم محبته لنا وغيرته علينا كمحبة العريس وغيرته من نحو عروسه.
وهذه الصورة لم ينفرد بها سفر نشيد الأنشاد بل تحدث عنها إشعياء أيضاً عندما قال « كفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك » (62: 5). وتحدث عنها إرميا « ذكرت لك غيرة صباك، محبة خطبتك، ذهابك ورائي في البرية في أرض غير مزروعة » (2: 2). وتحدث عنه هوشع « أخطبك لنفسي إلى الأبد...» (2: 19، 20). وكثيراً ما صور الكتاب المقدس التحول عن الله وعبادة الأوثان بأنه زنا. وأخيراً نجد المعمدان يتحدث عن الذين تركوه وتبعوا الرب يسوع (المسيا) بأنهم هم العروس « أنتم أنفسكم تشهدون لي أنى قلت لست أنا المسيح بل إني مرسل أمامه. من له العروس فهو العريس » (يو3: 28، 29).
وتوُصف الكنيسة في العهد الجديد أيضاً بأنها عروس المسيح؛ العروس السمـاوية، نظراً للمحبة العميقة والعلاقة الوثيقة والرابطة الأبدية التي لها مع المسيح (2 كو 11: 2، أف5: 26، رؤ19: 7-9، 21: 9)
3- سفر دانيآل: أما سفر دانيآل فإنه لا يوجد في كل الكتاب سفر نظيره اجتمعت عليه كلمة كل النقاد حتى إن واحداً اعتبر ما كتبه النقاد بشأنه "واحد من أروع الانتصـارات وأفيد الإنجازات للنقد الحديث". وسأكتفي بالحديث عن نقطة واحدة هامـة، وهى تأخُر زمن كتابة هذا السفر، حيث يقولون إنه كُتب نحو عام 100 ق.م. ثم نُسِب إلى دانيآل هذا الذي مات قبل ذلك بأكثر من 370 عاماً. وسر إصرارهم على هذه النقطة واضح؛ لأن نبوة دانيآل تحتوى على أمور كثيرة مستقبلة ومحـددة بغاية الوضوح. ومشكلتهم أنهم ينكرون الإعلان والوحي والنبوة على الإطلاق.
وفي طعنهم للسفر قالوا إن ذِكـر التواريخ بالتحديد في النبوة ليس مألوفاً، وعليه يكون تسجيل هذه الحوادث قد تم بعد وقوعها وليس قبله*. ثم أضافوا إن عدم ورود اسم دانيآل في الأبوكريفا (سفر ابن سيراخ) مع زمرة الأنبياء يدعم وجهـة نظرهم. ثم قدموا الدليل القاطع على أن زمن هذه النبوة متأخر فعلاً (أى في زمن حكم اليونان وما بعده) إذ أن الآلات الموسيقية المذكورة في أصحاح 3 أربع مرات هي يونانية المصدر وأسماءها من أصل يوناني.
وردّنا على طعونهم تلك أن الكتاب المقدس سجل العديد من النبوات المحددة التاريخ. نجد هذا في سفر إشعياء (7: 8)، وفي سفر إرميا (25: 11، 12، 29: 10)، وفي سفر حزقيال (29: 11)…الخ. بل إن في أول أسفار الكتاب؛ في سفر التكوين نجد نبوة محددة التاريخ نطق بها الله لإبراهيم وتمت بكل دقة (تك15: 13).
كما أن اعتراضهم هذا كان يصبح مقبولاً لو أن دانيآل في كلامه توقف عند أنتيوخس أبيفانس في زمان حكم الرومان. أما انه استمر في النبوة إلى ما كان سيحـدث تحت الحكم الروماني، بل وإلى آخر الزمان؛ فهذا يجعل حجتهم غير ذات قيمة.
وعن عـدم ورود اسم دانيآل في سفر ابن سيراخ نقول إن الأنبياء الصغار أيضاً لم يرد ذكـرهم فيه. ومن قال إن ابن سيراخ هذا قام بعمل حصر شامل لكل الأنبياء؟ ومن قـال إن من لم يذكره ابن سيراخ هذا تسقط عنه صفة النبوة أو يصبح غير موجود على الإطلاق!!
أما عن الآلات الموسيقية الست فنقول إنه قد تبين فعلاً أن اسم آلتين من الستة من مصـدر يونـاني. لكن تبين أيضاً أن هذه هي الإشارة اليونانية الوحيدة في كل السفر. فإذا كانت حجتهم أن هذا السفر لابد وأن يكون قد كُتِب أيام حكم اليونان أو بعده نظراً لورود هذه الإشارة الفريدة، فإننا بنفس منطقهم نقول بل إن خلو السفر من أية إشارة يونانية أخرى لابد وأن تعيد السفر مرة ثانية إلى فترة سابقة لحكم اليونان.
ومن قال إنه قبل غزو الإسكندر الأكبر لبابل كانت بابل مغلقة على حضارة وفـن الإغريق أو غيرهم من الشعوب!! هناك إشارة عابرة في الكتاب المقدس تدل على أن البابليين كانوا مولعين بالموسيقى الأجنبية. ألم يسألوا اليهود أثناء سبيهم إياهم قائلين لهم « رنموا لنا من ترنيمات صهيون »؟! (مز137: 3)
4 ـ سفر يونان: لم يسلَـم هذا السفـر أيضاً من تهكمات العقليين إذ قالوا كيف يمكن أن يبتلع حوت إنساناً دون مضغ وأن يظل بداخله ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ؟!
لكن المشكلة تزول تماماً إذا لاحظنا قول الكتاب إن الرب ليس أرسل حوتاً لابتـلاع يونان، بل أعد الرب حوتاً (وفي الأصل العبري؛ سمكة كبيرة). فذاك الذي خلق العالمين بكلمة، لم يكن عسيراً عليه أن يعد سمكة لهذا الغرض المذكور.
لكن أحقاً لا توجد حيتان بمقدرتها ابتلاع إنسان؟ لقد طالعتنا إحدى المجلات الإنجليزية بهذه الحادثة العجيبة وملخصهـا أن إحدى سفن الصيد، كانت تصطاد في البحر الأبيض عندما رأى الرقيب حوتا كبيراً. فاتجهوا إليه بقواربهم ووجهوا حرابهم نحوه وأمكنهم صيده لكن بعد أن ضرب بذيله أحد القوارب فأغرقه، ولم يستطيعوا العثور على اثنين من زملائهم يدعى أحدهم "جيمس بارتلى". وبعد 36 ساعـة من العمل المستمر في تقطيع الحوت، شعروا بحركة غريبة داخل بطنه ولما فتحوها وجدوا بداخلها جيمس بارتلى هذا، الذي قال إن معدة الحوت كانت بالنسبة له كحجرة كبيرة، وكان يمكن أن يعيش فيها إلى أن يموت جوعاً. كما شهد أحد العلماء أنه طالما شاهد في معد بعض الحيتان حيوانات بحرية، حجم الواحد منها لا يقل عن حجم اثني عشر رجلاً.
ما أتفه العقبات التي يضعها الإنسان لتصديق أقوال الله القادر على كل شئ. لكن من الناحية الأخرى ما أحكم التعبير البسيط الذي قالته امرأة فقيرة وغير متعلمة. لقد قالت: لو كان مكتوباً أن يونان هو الذي بلع الحوت، لا أن الحوت هو الذي بلع يونان، لكنت آمنت به ببساطة لأنه مكتوب. قد يعتبر واحد أن هذا الرد نابع من جهل المرأة، لكننا نقول إن الجهل الذي يصدق الله، أحكم من فلسفة الإنسان التي تتصيد ما يظنوه أخطاء في كتاب الله وتنسب له جهالة.

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة